«يوجد اليوم نحو 700 فرنسي قاصر في سوريا، وعودتهم هي فقط مسألة وقت». هذه الحصيلة المتوقعة جاءت على لسان مسؤولي «مجلس تنسيق الإجراءات ضد التطرف في فرنسا» في شباط الماضي. «سوريا» المقصودة تعني في واقع الأمر المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة المركزيّة في دمشق، وهي مناطق يخضع معظمها لسيطرة مجموعات «جهاديّة» على رأسها «داعش» و«النصرة».
ورغم أنَّ الأجهزة الفرنسية تتعامل مع هذا الملف بوصفه «خطراً إرهابياً» جرت مناقشته في خلال اجتماع لـ«شبكة التنبيه للتطرف»، لكنه لا يبدو كافياً لدفع السلطات الفرنسيّة إلى التفكير بجدية في مقاربة مختلفة لتعاطيها مع الملف السوري. ولن يكون مستغرباً أن تأخذ باريس بتوصيات قدّمها «مركز الدراسات والتوقعات والاستراتيجية CAPS» التابع لوزارة الخارجية، وتنصح بالعمل على «تمويل مساعدة وإعادة إعمار المناطق المحررّة»، بما فيها تلك التي تخضع لسيطرة «الفصائل الإسلامية». التوصيات المذكورة كشفت عنها تقارير صحفية فرنسية في شباط الماضي، وجاءت في سياق البحث عن «مكان فرنسا في النزاع السوري بعد سقوط حلب». رُفعت التوصيات في صورة «مذكرة سريّة» إلى وزير الخارجية جان مارك آيرولت في كانون الثاني مُركزة على أولويتين: «مساعدة المتمردين في "المناطق المحرّرة"، ونسف إعادة إعمار "سوريا الموحّدة" الخيار الموصى به من قبل مسؤولة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغريني».
تبدو توصيات المذكرة منسجمة مع روح السياسة الفرنسية التي تهتم بصورة أساسية بدعم أي مشروع يضمن تقسيم سوريا في نهاية المطاف. وحملت تلك السياسة قوات فرنسيّة خاصة و«مجندين متطوعين» إلى مناطق سيطرة «قوات سوريا الديموقراطيّة» ومشاريع لإقامة قاعدة عسكرية ومركز ثقافي في عين العرب (الأخبار، العدد 3037). واللافت أنَّ المذكرة السرية أعدّت بعد «سلسلة طاولات مستديرة من أجل الصراع السوري في سياقه الإقليمي: العراق، تركيا، القضية الكردية»، ما يجعل توصياتها مكملةً لسياسة دعم جهود تقسيم سوريا، مع اقتراح مناطق أخرى كمسرح لتلك الجهود بدلاً من الاقتصار على مناطق نفوذ «قسد». المناطق الجديدة المقترحة هي «محافظة إدلب، والجنوب الحدودي مع الأردن». وتنصح المذكرة بالتعامل مع «الفصائل الإسلامية المقاتلة (التي تسيطر على تلك المناطق) بطريقة واقعية».
وبات معروفاً أنَّ باريس حاولت لعب دور «رأس حربة» أوروبيّة، لا في أحداث سوريا فحسب، بل في موجة «الربيع العربي» منذ انطلاقتها. الاندفاعة الفرنسيّة المحمومة احتاجت في ميادين السياسة والعسكرة إلى «ظهير» تتكّئ عليه مرّة في صورة تحالف مع المال الخليجي، وأخرى في صورة عباءة الهيمنة الأميركيّة، قبل أن تبدأ أخيراً في السعي إلى جرّ الاتحاد الأوروبي تحت عنوان «إعادة الإعمار». وشذّ الميدان الأمني الاستخباري عن هذه القاعدة، حيث سعت الأجهزة الفرنسيّة منذ بواكير الحرب إلى تسجيل حضور داخل التنظيمات المسلّحة في سوريا، وعلى رأسها «الجهاديّة». ويبدو أن النجاح في تحقيق هذا الحضور شكّل في موازين الأجهزة الفرنسيّة «غنيمةً» تستحق أكثر من «غضّ النظر» عن انتقال مئات من «الجهاديين» الفرنسيين إلى سوريا. وخلال الشهور الأخيرة أكدت مصادر «جهادية» عدة أن «داعش» قد اعتقل «عملاء لكثير من أجهزة الاستخبارات». ويقول مصدر من سوريي التنظيم لـ«الأخبار» إنَّ «عدد العملاء الذين كُشف أمرهم منذ مطلع العام الحالي تجاوز العشرين في الرقّة وحدها». ووفقاً للمصدر ذاته، فقد كان من بينهم «خمسة فرنسيين (أربعة ذكور وامرأة واحدة) وثلاثة آخرون يتعاملون مع فرنسا من دون أن يحملوا جنسيّتها». ورغم صعوبة الجزم بدقّة هذه المعلومات، لكن الكلام على ارتباطات بعض «القياديين الجهاديين» بالاستخبارات الفرنسيّة ليس جديداً، ولا حكراً على مصادر التنظيم، بل إنّ الاستثمار الفرنسي داخل «التنظيمات الجهادية» أسبق من الحرب السورية. ومن أبرز الأمثلة في هذا السياق يأتي «حمزة الفرنسي» (ديفيد دروغيون) الذي قُتل في تموز 2014. كان دروغيون أحد أبرز أعضاء «مجموعة الذئب» التابعة لـ«جبهة النصرة» في سوريا (الأخبار، العدد 2700). ورغم أن السيرة «الجهاديّة» المعتمدة لدروغيون لا تتضمّن إشارة إلى ارتباط مماثل، لكن معلومات متداولة على نطاق ضيق تشير إلى أنه كان «منشقّاً عن المخابرات الخارجيّة الفرنسيّة». وخلافاً لما تشير إليه السيرة المتداولة من أنّه «غادر فرنسا إلى باكستان (عام 2010) بسبب الضغوطات التي واجهها من أسرته الكاثوليكية للتخلي عن دينه، وعدم قدرته على التكيف مع محيط كافر»، تقول معلومات أخرى إنّ ذهابه إلى باكستان كان «جزءاً من عمله الاستخباري». وليس دروغيون الوحيد في هذا الباب، لكنه من بين الأشهر. وتذهب بعض المصادر إلى القول إنَّ «منفّذ هجمات تولوز (تموز 2012) محمد مراح كان قد جندته المخابرات الفرنسية عام 2010 لاختراق تنظيم القاعدة، بدلاً من قبول طلب انتساب تقدّم به إلى الجيش الفرنسي». وفي خلال عامي 2010 و2011 تنقل مراح بين باكستان وأفغانستان، قبل أن يُعتقل في الأخيرة ويتمكن من الفرار ويعود إلى فرنسا. ومنذ الربع الأخير من العام الماضي تزايدت كثيراً عودة عائلات فرنسيّة من مناطق سيطرة «داعش» الآخذة في الانحسار. وترد بين وقت وآخر إشارات في الصحف الفرنسيّة إلى حالات مماثلة، من دون استفاضة في التفاصيل. ومن أحدث تلك الإشارات ما أوردته صحيفة «لوموند» في الثاني والعشرين من شباط الماضي عن «عائلة فرنسية فرّت من داعش ويحتجزها الجيش الحر». ووفقاً للصحيفة، كانت «الأم حبيسة مع طفلتها واستطاعت أن تستعير هاتفاً من أحد السجانين لتتواصل عبر الواتس أب وتحكي القصة». أما الزوج، فهو «جندي قديم في الجيش الفرنسي». وخلافاً للرواية التي توردها الصحيفة، فإنّ العائلة الفرنسية المذكورة لم تكن محتجزة، بل هي واحدة من عائلات أجنبيّة كثيرة جرى تجميعها في مراكز استقطاب أُنشئت بتعاون استخباري بين واشنطن وتركيا. وتشكل تلك المراكز محطة انتقالية تمر من خلالها العائلات إلى جهة من اثنتين: بلادها، أو مناطق «درع الفرات»، وتبعاً لما تقرره استخبارات الدولة المعنيّة التي توضَع في الصورة فوراً. (نشرت الأخبار تقريراً مفصلاً في هذا الشأن في كانون الثاني 2017 العدد 3075). وفيما تعني عودة هؤلاء إلى بلادهم قلقاً إضافيّاً من أي نشاط «جهادي» مستقبلي لهم، فإنَّ من شأن بقائهم في مناطق خارج سيطرة الدولة السورية يجري «دعم إعمارها» أن يخفف من تلك المخاوف. وكان رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس قد حذّر في أيلول الماضي من «هجمات إرهابية جديدة محتملة».

«مركز الدراسات والتوقعات والاستراتيجية CAPS»




فرنسا... ليست وحدها

ليست فرنسا الدولة الوحيدة التي تواجه تحدي عودة «قاصرين جهاديين» إلى أراضيها. ومن بين الدول الأوروبية التي دقّت ناقوس الخطر في هذا الإطار تبرز هولندا التي أطلقت وكالة استخباراتها في شباط الماضي تحذيراً بهذا الشأن. وقالت الوكالة في تقرير لها إنّها «تتعامل مع الأطفال الهولنديين في مناطق الصراع في العراق وسوريا كمسافرين جهاديين لأنهم ربما تلقوا تدريباً عسكرياً». ويتحدث التقرير عن «ثمانين طفلاً هولنديّاً على الأقل وُلد بعضهم في تلك المناطق، وبعضهم اصطُحب (من قبل الوالدين أو أحدهما) إليها». يوضح التقرير أنّ «20% من الأطفال هم بسنّ التاسعة أو أكبر»، ويشير إلى الخطر المتمثل في أنّ «الأطفال في مناطق سيطرة الدولة الإسلامية بعض الأحيان يتلقون التدريب العسكري والأسلحة في سنّ التاسعة». وتحذر الوكالة من أنَّ «الأطفال مثل البالغين، ربما شاركوا في أعمال قتالية أو أفعال عنف أخرى كالإعدامات». وتشير التقديرات الهولندية إلى وجود نحو «300 مواطن هولندي ذهبوا للقتال إلى جانب الجماعات الإسلامية، عاد منهم 50»، وتتوقع «تزايد العودة بعد تدهور الأوضاع المعيشية في مناطق داعش». وكانت «الأخبار» قد تناولت ملف «الأطفال الجهاديين» في تقرير مفصل في آب 2015 (الأخبار العدد 2672).