فرضت «وحدات حماية الشّعب/ ypg» الكرديّة نفسها لاعباً مؤثّراً في مجريات الميدان السوري، منفردةً أوّل الأمر، ثمّ من خلال غطاء وفّره تشكيل «قوّات سوريا الديمقراطيّة/ قسد». ويُعَدّ «حزب الاتحاد الديموقراطي pyd» (بزعامة صالح مسلم) أكثر الأحزاب الكرديّة حضوراً في واجهة المشهد السوري، رغم أنّه ليس الحزب الكردي الوحيد، إذ يبرز على المقلب الآخر «المجلس الوطني الكردي» المُمثل في «الائتلاف المعارض» (عبر عبد الحكيم بشار) والمدعوم من إقليم كردستان العراق.
عرف الملف الكردي السوري علامات فارقة كثيرة منذ عام 2011 وحتى اليوم. وتكفي المقارنة بين صورة الشمال والشمال الشرقي كما كانت قبل ست سنوات، وبين نظيرتها اليوم لتبيان التحوّلات الهائلة التي مرّ بها الملف (الأخبار، العدد 3136). شهدت العلاقة بين الأكراد السوريين وبين دمشق منذ عام 2012 منعطفات عدة (في ذلك العام تسلّمت جهات كرديّة من دمشق (بشكل غير معلن) مسؤولية إدارة بعض المناطق). أما أبرز المفارقات في مسيرة «الوحدات» وعلاقاتها، فإنّ بواكير الدعم العسكري الذي تلقّته كانت من السلطات السوريّة، قبل أن ينتهي بها المطاف أخيراً (بوصفها المكون الأساسي لقسد) «حليفاً» للأميركان وذراعاً برّية لـ«التحالف الدولي». ثمّة اختلاف كبير بين «الأداء العسكري» للقوى الكرديّة في سوريا، وبين نظيره السياسي. ففيما اتّسم الأوّل بالثّبات وحصّل مؤشرات قوّة صاعدة على طول المسار، عرف الثّاني تخبّطاً وتضارباً لافتاً، سواء في ما يخصّ العلاقة مع دمشق أو مع اللاعبين الإقليميين والدوليين المؤثرين في الحدث السوري، ولا سيّما العلاقة مع أنقرة. ولا يُمكن عدّ الأكراد مسؤولين حصريّين عن هذا التضارب، فهو في معظم الأحيان قام على أسباب تتعلّق بمتغيرات الحرب السورية وتداخل خيوط اللعبة، وكذلك بتحوّلات الداخل التركي وسياسات رجب طيب أردغان. وفيما استمرّ «المجلس» في حالة «وئام» مع الأتراك، شهدت العلاقة بين هؤلاء و«الاتحاد الديموقراطي» تحولاً جذريّاً. وعلى سبيل المثال كان صالح مسلم يزور تركيا في أواخر تموز 2013 ويؤكد بعد لقاء مسؤوليها أنّ «أنقرة غير قلقة بشأن الوجود الكردي على الحدود»، أما في أواخر عام 2011 فقد صدرت مذكّرة توقيف تركيّة بحق مسلم. ورغم أنّ التحولات في العلاقات ليست شيئاً جديداً في عالم السياسة، غير أن مشكلة الأكراد الأبرز على هذا الصعيد هي القبول بلعب دور «الأداة» في كثير من تحالفاتهم التي يبدو أنّها تُعقد تحت ضغط استعجال محموم لاستثمار «فرصٍ تاريخيّة»، لا على أسس تتوخّى استراتيجيّات سياسية واضحة المعالم. بشكل عام، اكتسب الملف الكردي في سوريا في خلال النصف الثاني من عمر الحرب صبغةً عسكريّة طاغية، إن لجهة «الحياة الداخليّة» حيث لا يمكن القول إن هذه المناطق تشهد «حياة سياسيّة» بل لا تشهد «نشاطاً سياسيّاً حرّاً»، أو لجهة الهيمنة على واجهة الحدث وعقد التحالفات والاتفاقات المختلفة. ورغم أن الحال أوحى بأنه في طريقه إلى التبدل (إلى حدّ ما) مع تشكيل «قوّات سوريا الديموقراطيّة» التي استقطبت مكونات إضافيّة سوى الأكراد، واستُحدث «مجلس سوريا الديمقراطيّة» الذي يُفترض أنه الواجهة السياسيّة، غير أنَّ كثيراً من الأكراد يرون في هذا «المجلس» كياناً ذا صبغة واحدة. ويبدو طبيعيّاً أن «قوّات سوريا الديموقراطيّة» بما هي عليه من كيان عسكري قد ورثت عن «الوحدات» الهيمنة على الواجهة. عرف عام 2015 كثيراً من الأحداث الفارقة في الملف الكردي السوري بدءاً من هزيمة «داعش» في معركة عين العرب (كوباني) في كانون الثاني (التي مهّدت تالياً لمنعطف في العلاقة بين الأكراد وبين الولايات المتحدة). لتتالي «الإنجازات» العسكرية، وكان من أبرزها السيطرة على تل أبيض (ريف الرقة الشمالي) في آب، وصولاً إلى إعلان تشكيل «قسد» في تشرين الأوّل. في العام التالي (2016) سيطرت «قسد» على مناطق عدّة «غرب الفرات» من أبرزها تل رفعت (شباط) وبدأت مؤشرات الخطر تتصاعد في مقاييس أنقرة، قبل أن تصل ذروتها في النصف الأول من آب مع سيطرة «قسد» على منبج. كانت الأخيرة في طور التفكير الجدي في إعلان «مقاطعة جديدة» تحت اسم «الشهباء» تكون صلة الوصل بين «مقاطعة عفرين» ونظيرتيها الجزيرة، وعين العرب (كوباني) شرق الفرات (راجع الأخبار، العدد 3012). لكن الجيش التركي لم يلبث أن دخل الحرب مباشرةً، مطلقاً عملية «درع الفرات» في 24 آب، التي أدت إلى احتلال مناطق تفصل بين منبج و«الشهباء». يشرح هذا التطور جزءاً كبيراً من تعقيدات الشمال السوري وتفاهماته الخفيّة، فالثابت أن الخطوة التركية جاءت بتنسيق مع موسكو وواشنطن، وبصمت من دمشق أوّل الأمر. أعلنت «قسد» في تشرين الثاني انطلاق «معركة تحرير الرقة»، لكن «الحفلة» الحقيقية كانت تنتظر وصول الإدارة الأميركية الجديدة. في شباط 2017 انتزعت «درع الفرات» منطقة الباب، وتاخمت منبج، قبل أن يدخل الجيش السوري إلى الأخيرة نتيجة اتفاق مفاجئ مع «قسد» عبر موسكو. إلى منبج أيضاً استجلبت «قسد» قوات أميركيّة، لتنخفض احتمالات مهاجمة «درع الفرات» المنطقة، وينتقل الكباش التركي – الكردي إلى معركة الرقّة ودور كل من الطرفين فيها. كذلك دخلت قبل أيام قوات روسية إلى منطقة عفرين، وتواصل «قسد» السعي إلى جمع النقائض في تحالفاتها، في نهج ربما كان يهدف إلى «الاستعداد لكل المفاجآت». أخيراً جاءت تطورات الإنزال الأميركي قرب الطبقة، لتمهّد لما يبدو أنه الشكل النهائي لمعركة الرقة: «قسد» و«التحالف» وحيدان في الميدان. جاهرت «قسد» أخيراً بعزمها على «تحرير دير الزور من داعش» عبر «مجلس دير الزور العسكري»، وباعتزامها «زيادة عديد قواتها إلى مئة ألف مقاتل مع نهاية هذا العام». ليس من المعلوم بعد ما هي التبعات التي ستتركها هذه الخطوة على العلاقة بين «قسد» ودمشق، غير أن «قسد» دأبت على التأكيد أن «لا نيات لديها للدخول في مواجهات مع النظام، والحل سيكون سياسياً آخر المطاف». وهي في الوقت نفسه حريصة على تأكيد «العلاقات الوطيدة مع موسكو». أما أبرز ما تؤكده على الدوام فهو الثقة بـ«التحالف مع الأميركيين». تستضيف «قسد» في مناطقها قواعد أميركية وقوات خاصة من مختلف الجنسيات، ويبدو أنّ عليها ينعقد الرهان «الأقوى» في فرض «فيدراليّة أمر واقع» في نهاية المطاف (الأخبار، العدد 3037).




التعقيدات... أقدم من «الأزمة»

لم ترث «المسألة الكرديّة» تعقيداتها الكثيرة من «الحرب السوريّة» البالغة التعقيد بدورها، والأدقّ أنّ تعقيدات ملف الأكراد السوريين أقدم بكثير، ولا سيّما ما يتعلّق بالعلاقة بين الأكراد والسلطات السورية. تباين تعامل السلطات السورية مع الملف صعوداً وهبوطاً ما بين الإحصاء الاستثنائي (1962) وصولاً إلى مرسوم التجنيس (2011)، مروراً باحتضان عبد الله أوجلان ثم خروجه من سوريا (1998) فالتقارب بين دمشق وأنقرة، وأحداث القامشلي الشهيرة (2004).