دمشق | على بعد أمتار قليلة من مكاتب الموظفين المعنيين بتطبيق سياسة ترشيد المستوردات في وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، تواظب بعض المحال التجارية على عرض ألبسة أوروبية يصل سعرها إلى ضعفي متوسط الأجر الشهري للعامل السوري. وإذا ما تجول الزائر أكثر واقترب من أماكن تقصدها الطبقة «الميسورة» فسيكون باستطاعته أن يطّلع على أفضل ما تطرحها بعض الماركات العالمية من منتجات وأزياء الموسم، وأكثر من ذلك فإن المنتجات التركية لا يزال لها حضور قوي في الأسواق المحلية بعد ثلاث سنوات تقريباً من إغلاق المعابر الحدودية الرئيسية بين البلدين، أو بالأحرى سيطرة المسلحين عليها.
وما ينطبق على الألبسة المستوردة ينسحب على كثير من السلع المصنفة على أنها «فاخرة» أو ذات منشأ أجنبي، لتكون المفارقة في ذلك ذات وجهين، فمن جهة ثمة تناقض بين تطبيق الحكومة لسياسة ترشيد المستوردات واستمرار تدفق السلع المستوردة المفترض أنها «محظورة»، ومن جهة ثانية هناك سؤال جوهري تطرحه هذه الظاهرة، وفحواه: وهل أبقت سنوات الحرب الأربع سوقا لهذه السلع بعد ارتفاع نسب الفقر لتلامس حدود 85% من المواطنين؟

أصل البلاء

يصرّ وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية همام جزائري على أنّ جميع السلع الأجنبية الموجودة اليوم في الأسواق المحلية، وتحديداً الألبسة والماركات منها، مهربة ولم تدخل البلاد على نحو نظامي، فوزارة الاقتصاد تحصر عملية الاستيراد حالياً بالمواد الأولية ومستلزمات الإنتاج فقط.
ومن قلب «الحريقة»، المركز التجاري للعاصمة، يحدد رئيس غرفة تجارة دمشق غسان قلاع لـ «الأخبار» منافذ التهريب الرئيسية، فيشير إلى منفذين «الأول يتمثل في اتجاه بعض البواخر والسفن المحملة بالمستوردات لإفراغ حمولتها في ميناء الاسكندرونة متحاشية بذلك الموانئ السورية لارتفاع رسومها ونفقاتها مقارنة بالموانئ الأخرى، وحظر الحكومة استيراد السلع المصنعة». ويؤيد هذا الرأي البيانات التي نشرها أخيراً الدكتور يعرب بدر، وزير النقل السابق والمستشار حالياً في «الإسكوا»، نقلاً عن الاتحاد التركي للناقلين الدوليين، وجاء فيها أن عدد الشاحنات التركية التي دخلت المناطق السورية الخاضعة لسيطرة المجموعات المسلحة عام 2014 بلغ نحو 108 آلاف شاحنة بزيادة واضحة عن سنوات ما قبل الأزمة، فضلاً عن الحديث التركي عن «تحسن صادرات أنقرة» لسوريا عام 2013 مقارنة بالعام السابق ولتصل إلى حدود المليار دولار، برغم استمرار إغلاق المعابر الرسمية وسيطرة المجموعات المسلحة عليها بتسهيل تركي.

ظهور شريحة اجتماعية جديدة وثرية لم تتعب في جني أرباحها


الأمر الذي يعني أن البضائع التركية والأجنبية المستوردة تدخل إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المجموعات المسلحة ليستهلك بعضها السكان هناك، وتهريب الباقي إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة.
المنفذ الثاني الذي يتحدث عنه قلاع «يمر عبر لبنان» وطرق التهريب التقليدية بين البلدين، سواء تلك التي تقع في المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة السورية، أو التي لا تظل تحت نفوذ المجموعات المسلحة.
وخلال الفترة الماضية صدرت عن مديرية الجمارك إشارات تعكس التخوف الرسمي من حجم ظاهرة التهريب وتغلغلها في الأسواق المحلية، فكان أن صدر مرسوم يعفي التجار من أي غرامات في حال مبادرتهم إلى التصريح عن البضائع غير النظامية الموجودة لديهم، ودفع الرسوم المترتبة عليها للحصول على البيانات الجمركية النظامية، كما يلاحظ زيادة وتيرة حركة دوريات الجمارك داخل مناطق العاصمة، وقيامها بالتدقيق في حمولات الشاحنات الصغيرة والكبيرة ومحتويات بعض المحال والمستودعات التجارية.
لكن تلك الإجراءات لا تعفي مديرية الجمارك وغيرها من مسؤولية توافر تلك السلع في الأسواق المحلية بكميات كبيرة، فمن وجهة نظر الدكتور أيمن ديوب من كلية الاقتصاد في جامعة دمشق فإن «المبرر الوحيد هو في غياب الرقابة الحقيقية من قبل المؤسسات الرقابية الحكومية، فلا نجد دورا حقيقيا لوزارة الاقتصاد أو وزارة المالية أو وزارة التجارة الداخلية أو إدارة الجمارك العامة، ما يتطلب التدخل السريع من جانب الجميع ويستدعي تنسيق الإجراءات والتوجه نحو السوق لناحية الحد من وجود البضاعة المهربة، التي تستنزف القطع الأجنبي خارج النظام المصرفي وسياسة الحكومة لتمويل المستوردات».

ماركات ومطاعم

هذه السلع والبضائع، وبغض النظر عن الطريقة التي دخلت بها البلاد، فإنها في نهاية المطاف تلبي احتياجات شريحة ما من السوريين، تماماً كما هو حال المطاعم السياحية التي لا تزال تشهد إقبالاً جيداً. وهذا ما شجع مسؤول اقتصادي بارز، فضّل عدم ذكر اسمه، للمطالبة بالتشدد في تحصيل رسم الانفاق الاستهلاكي من هذه المطاعم، لكونه إجراء يمكن أن يوفر إيرادات سنوية تراوح قيمتها ما بين مليار وملياري ليرة سورية.
اللافت في هذه الشريحة، والمفترض أن تأثيرات الأزمة قد نالت منها أيضاً تبعاً لنسب مختلفة، أنها حافظت على أنماطها المعيشية المعتادة وكأن شيئاً لا يحدث في البلاد. ولدرجة طغى فيها سلوكها الاستهلاكي على يوميات الحياة في مراكز المدن، عوضاً عن معاناة الفقراء ومظاهر البؤس التي خلفتها الحرب. وهنا يعيد الأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، إبراهيم العدي، السبب في ذلك إلى «ظهور شريحة اجتماعية جديدة وثرية لم تتعب في جني أرباحها، لا بل إن جزءاً كبيراً من أرباحها جاء نتيجة الأزمة الطويلة والفلتان الاقتصادي، الذي لا يقل أثره وخطورته عن الفلتان الأمني، من استيراد سلع وفرض أسعار افتراضية لا علاقة لها إلا بالمزاج، وعلى ذلك فالسلع الفاخرة تلبية لحاجة هؤلاء الذين أثروا على حساب الفقراء».
باستفاضة أكثر يشرح الدكتور ديوب الأسباب الكامنة خلف استمرار توافر هذه الظاهرة، فيقول إن «الأزمة فرضت تحديات عديدة أهمها السعي نحو توفير مقومات الأمن والأمان تلبية لاستمرارية القطاع الإنتاجي الذي بدأ يستأنف دوره في إطار ترميم سلاسل القيمة والإنتاج خاصة خلال النصف الثاني من العام الماضي، لكن هذا جرى في ظل تحديات قللت من ذلك كان من أهمها: «انخفاض مستوى الولاء لدى البعض من خلال استمرارية عمليات التهريب، وصعوبة النفاذ للتمويل من المؤسسات المالية المرخصة في سوريا في إطار عملية ترشيد الاستيراد، ومرور الاقتصاد في مرحلة انتقالية لناحية تصحيح الاختناقات الهيكلية في أساليب الدعم والانتقال من دعم مستلزمات الإنتاج نحو استهداف دعم المنتج النهائي، ووجود كميات كبيرة من الأموال لدى مجموعة من الأفراد غير معروفة المصدر، وسوء توزيع الناتج بين الأفراد وغياب الرؤية الاستراتيجية الحقيقية للفريق الاقتصادي في الحكومة».
وهكذا فإن الأزمة زادت من الفوارق الطبقية أو بالأحرى اختصرتها لتصبح بين شريحتين، واحدة فقيرة أصبحت تمثل ما يقرب من 85% من السوريين، وأخرى غنية وميسورة، وعلى ذلك فإن الدكتور العدي يرى أنّ «التضخم في هذه الظروف ما هو الا ضريبة يدفعها الفقراء للأغنياء. فالفقراء ثروتهم نقدية والأغنياء ثرواتهم عبارة عن أصول عينية، وهذا في ظل وجود نظام ضريبي فاشل ومشلول ساعد على إعادة توزيع الثروة لمصلحة الأغنياء»، مشيراً إلى أن أحد أهم الحلول هو قص «صوف الأكباش بدلاً من سلخ الحملان، كما لا يخفى عدم وجود فريق اقتصادي قادر على حلحلة بعض المعضلات التي تواجه المواطنين الفقراء».