الجزائر | 19 حزيران (جوان) 1965، الجزائر العاصمة. يستيقظ الجزائريون صباحاً ليخرجوا إلى أعمالهم، وفي أذهانهم أنّه يومٌ عاديّ جديد يُضاف إلى أيام الأعوام الثلاثة التالية للاستقلال. في الشارع كانت كل المحال مغلقة، والجيش يُرابط في الأماكن الحسّاسة، مستخدماً دبّاباته الروسية (أمام الثكنات، الوزارات، مقر الحكومة، الساحات العامة، قلب العاصمة، أمام مبنى البريد المركزي...). بدأ النّاس بفتح محالهم، دخل الموظّفون إلى المكاتب، تجمهر السكّان أمام الدبّابات. ومع منتصف النهار جاء العقيد هواري بومدين، ليُعلن عن «تصحيح ثوري»: نُحِّيَ رئيس البلاد، أحمد بن بلة، ووصل بومدين إلى رأس السلطة.
أمس مرّت الذكرى الخمسين لهذا الانقلاب، أو «التصحيح الثوري»، كمّا تقدّمه الرواية الرسمية. كانت يوم جمعة عاديّ في الجزائر العاصمة، ومن يعرف الجزائر، يعرف أنّه يوم عطلة للبلاد كلّها. ما قبل الصلاة وما بعدها، تكون الشوارع خالية، لا جيش ولا دبابات في الطرق. حركة المواصلات قليلة، قطارات أو حافلات. إضافة إلى ذلك، كان ثاني أيام شهر رمضان.
يتغيّر روتين حياة المواطن الجزائري في رمضان... وتتضاعف القُدرة الشرائية للمستهلك

يتغيّر روتين حياة المواطن الجزائري في رمضان، يتجمهَرُ النّاس حول طاولات الأسواق الشعبية التي قد تبيع أيّ شيءٍ يمتّ بصِلة إلى الأكل في هذا الشهر. ورغم أنّ الدخل المتوسّط للفرد يبقى على حاله، تتضاعف القُدرة الشرائية للمستهلك الجزائري في شهر رمضان، إذ كالعادة في هذا الشهر يصرف الناس ما في جيوبهم في الأسواق، وعلى موائد الطعام. وفي الشارع، لم تتغيّر الأحوال عمّا كانت عليه منذ أعوام.
حميد، صاحب مخبزة (فرن)، في حيّ الحراش (10 كلم عن وسط المدينة)، يقول إنّ معدّل شراء الناس للخبز يتزايد في رمضان، إذ «يأخذون من ست إلى سبع خُبزات (أرغفة)، وينوّعون من الباغيت، إلى الدائري، إلى النجمة». صناعة الخُبز في الجزائر، والمغرب العربي عموماً، تختلف عن نظيرتها في المشرق، حيث تطغى الأفران الشعبية. المخبزات (الأفران) هنا تخبز على الطريقة الفرنسية، ما يسمح بتنوّع في الخبز والعجائن المختلفة، من دون أن يمنع ذلك شراءَ المُستهلك لـ«خبز الدار» من الأولاد الذين يعرضونه داخل سلاّت منزلية على حافة الطريق، وفي الأسواق. يتراوح سعر «الخُبزة الباغيت» (الواسعة الانتشار) بين 10 و15 ديناراً (نحو 0,1 دولار)، وذلك لأن الحكومة تتبّع سياسة دعم للمواد الأساسية (القمح، السكّر، الزيت، الحليب...).
في المقابل، إحصائيات السنة الماضية تقول إنّ أكثر من 2,7 مليون «خُبزة» تمّ رميها خلال شهر رمضان، ما يجعلنا نطرح العديد من الأسئلة حول سياسات الدعم التي تقوم بها الحكومة، أهمها: هل هي ضرورية في حالة الخبز مثلاً؟
تطرح أسئلة كهذه في ظلّ تنامي خطابات التقشّف و«شد الحزام» التي يُنادى بها اليوم، والتي كان أحمد أويحيى، رئيس الحكومة الأسبق والعائد حديثاً على رأس حزبه «الأرندي» في ظروف صعبة، يُنادي بها. وكان أويحيى قد واجه في 2008 ــ 2009 ردود فعل سلبيّة إزاء خطاب كهذا، خاصة خطابه الذي قال فيه: «ليس على كلّ مواطن أن يأكل الياووغت (الزبادي)»، في إشارة إلى «ترشيد الاستهلاك».

ترشيد الاستهلاك

بعيداً عن أويحيى، أو قريباً منه، اجتمعت الحكومة الجزائرية، يوم الثلاثاء الماضي، لتناقش قانون المالية التكميلي لسنة 2015، والذي حمل رسوماً وضرائب جديدة، ربّما سيعرفها المواطن الجزائري لأوّل مرّة، ما جعل جريدة «الخبر» تعنوِن صفحتها الأولى بـ: «سنة سوداء على جيوب الجزائريين!». وجاء هذا القانون، حسب الخطابات الرسمية، لـ«ترشيد النفقات العامّة» و«ترشيد استهلاك المواطن الجزائري».
وبعد ضريبة جواز السفر، التي ارتفعت من 2000 دينار (حوالى 20 دولاراً) إلى 6000 دينار، وبعد مُداهمة قوّات الأمن ساحة السْكْوَارْ في العاصمة، حيث يوجد أكبر سوق سوداء للعُملة الصعبة (علماً بأن المصادر الأساسية والسوق الأكبر تعمل في الخفاء)، بعد كلّ هذا أتى القانون التكميلي ليحمل أخباراً غير طيبة لسائقي السيارات أيضاً. فالضريبة على استيراد السيارات سترتفع من 30000 دينار إلى 100000 دينار. كذلك، القسيمة السنوية للسيارات سيشهد سعرها ارتفاعاً هائلاً.
أما القانون الذي سيصدم السائق الجزائري، والذي سيبدأ تنفيذه بداية 2016، فهو «بطاقة الوقود المدعوم»، إذ ستمنح بطاقات للسائقين تحوي عدداً محدّداً من الليترات المدعومة حكومياً، وإذا تجاوزها السائق فإنه يدفع الباقي، غير المدعوم، من جيبه. تعتبر هذه «البطاقة» سابقة في بلدٍ يعتبر من أكبر مصدّري المحروقات في المنطقة، وسعر الوقود فيه أيضاً من بين أرخص الأسعار في المنطقة، (في حدود 0,2 دولار لليتر، لكل أنواع البنزين، والمازوت أرخص)، ما يعني أنّ نتائج انخفاض أسعار البترول قد بدأت تتجسّد على أرض الواقع.
وبحسب بعض المحللين السياسيين، تعدّ القرارات المماثلة ضرورية بسبب ازدهار سوق السيارات منذ ما يُقارب عشر سنوات، إذ انتشرت عمليات البيع بالتقسيط وانخفضت ضريبة الاستيراد، نسبياً. ورُغم بعض القوانين التي حاولت في السنوات السابقة التقليل من شراء المركبات، لم تستطع تدارُك الوضع، لسببين رئيسيين. أولاً، ارتباط الارتقاء في السلّم الاجتماعي والاقتصادي في ذهن الجزائري بامتلاك سيارة تؤمّن له حريّة التنقل وتخفّف عنه عبء رداءة شبكة المواصلات وتوقّفها عن العمل ليلاً والتوقف شبه الدائم أيّام الجمع والأعياد. أما السبب الثاني فيتمثل في انخفاض أسعار البنزين والمازوت، بالنقيض من وضع الجارين التونسي والمغربي، مثلاً.
هنالك وجه ثانٍ لسياسات ترشيد الاستهلاك والتقشّف. وتصادف أن بعض المشاريع قد انتهت مع حلول شهر رمضان، ما سيوفّر للناس مساحات جديدة للخروج. وتحاول الحكومة أن تبدأ بالاستثمار في السياحة، وأن تعيد إلى المُدن الكولونيالية البحرية هيبتها المفقودة، بدءاً بمدينة الجزائر.
العمل على الواجهة البحرية لمدينة الجزائر ــ الضفة الشرقية لها أو ما يُمكننا تسميته الكورنيش الجديد لمدينة الجزائر ــ قد شارف على الانتهاء، وتمّت تهيئة مساحات خضراء وأماكن للعب. ومؤخراً، تمّ الانتهاء من ثلاثة مسابح عامّة، في انتظار افتتاحها، ما سيشكّل فضاءً عاماً لأبناء العاصمة في سهرات رمضان، خاصة أنّ الترامواي والميترو سيغيّران مواعيد عملهما في رمضان، بانتظار افتتاح المحطات الجديدة لخط الميترو، يوم الخامس من تموز (جويلية)، أي في يوم ذكرى الاستقلال.
ينتهي يوم الجُمعة الرمضاني عادياً مرّة أخرى. يخرُج النّاس بعد الافطار من بيوتهم هاربين من الحر والرطوبة، باحثين عن أماكن مفتوحة أو ليكتشفوا المساحات التجارية الجديدة، إذ تعود مع رمضان بعض علامات مراكز التجارة الفرنسية لفتح سلاسلها في الجزائر...
ومقارنة بالسنوات الماضية، تضاعف عدد الأماكن المفتوحة للسهر، من خيمات (خيمات رمضانية كبيرة تفتح في الفنادق، مُستلهمة ديكوراً صحراوياً وتقدّم عروضاً ترفيهية) ومطاعم ومقاهٍ. ومنذ عشر سنوات تقريباً بدأت «حُرمة اللّيل» التي كرّسها عقد التسعينيات بالخوف أولاً، ثم بحظر التجوال، تتراجع وتتقلّص، خاصة في الصيف، وخلال شهر رمضان... وذلك رغم أنّ تركّز كل شيءٍ في العاصمة يجعل منها، في ساعات الذروة، أشبه بعُلبة تفيض بناسها، ما يجعل الجزائري متنقلاً في حدود الطوابير عند اللحام، البقال، الخبّاز، وفي المسجد، وحتى في مناسبات السهر مع العائلة...