باريس | بعد قرابة ستة أشهر من التجاذبات والمساعي المتعثرة، تم التوصل إلى ائتلاف حزبي موسع أُعلن بموجبه تشكيل حكومة مغربية جديدة، برئاسة وزير الخارجية السابق، وهو الرجل الثاني في حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي، سعد الدين العثماني.
وكان الملك المغربي قد أعفى، في 15 آذار الماضي، رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، إذ كان قد كُلّف، بمقتضى الدستور، تشكيل حكومة جديدة، إثر فوز حزبه «العدالة والتنمية» في الانتخابات التشريعية التي جرت في 7 تشرين الأول الماضي.
مساعي بنكيران لتشكيل ائتلاف حكومي تعثرت طوال خمسة أشهر. فرغم أن «العدالة والتنمية» حل في المرتبة الأولى بـ125 مقعداً برلمانياً، كان مطالباً بإقامة تحالفات حزبية موسعة لبلوغ النصاب القانوني للأغلبية النيابية، أي 198 مقعداً من مجموع 395.
وكانت المشاورات الحزبية، التي أطلقها بنكيران، قد اصطدمت بحجري عثرة: الأول قرار الغريم السياسي الرئيسي للإسلاميين، حزب «الأصالة والمعاصرة»، المقرّب من القصر الملكي، البقاء في المعارضة، مع أنه حلّ ثانياً في الانتخابات التشريعية بمئة ومقعدين. أما العقبة الثانية، فتمثلت في استقواء «الأحزاب المتوسطة» على «حزب الأغلبية» في لعبة التحالفات النيابية، بحكم نأي «الأصالة والمعاصرة» بنفسه عن المعترك الحكومي. ونجم عن ذلك معركة ليّ أذرع طويلة بين إسلاميي «العدالة والتنمية» وليبراليي «التجمع الوطني للأحرار»، الذي حل رابعاً بـ37 مقعداً.
زعيم «الأحرار»، وهو رجل أعمال مقرّب من القصر الملكي، عزيز أخنوش، لم يفاوض بنكيران على توزيع الحقائب الوزارية الأهم فحسب، بل اشترط إشراك حزب «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» العتيد (لم ينل سوى 14 مقعداً في الانتخابات الأخيرة) في الائتلاف الحكومي الجديد، لكن بنكيران رأى أن ذلك خطّ أحمر. لكنّ زعيم «العدالة والتنمية»، الذي لم يرَ مانعاً في التحالف مع حزب «التقدم والاشتراكية» (الحزب الشيوعي المغربي)، رفض ضم «الاتحاد الاشتراكي» إلى ائتلافه الحكومي، بسبب خصومات سياسية قديمة تعود إلى منتصف السبعينيات.

الحكومة الجديدة
لا تمثل مساكنة بين القصر وأحزاب الأغلبية


وقبل تأسيس «العدالة والتنمية»، عام 1996، بالتحالف بين بقايا «الجماعة الإسلامية» و«الحركة الشعبية الدستورية الديموقراطية»، كان بنكيران منضوياً في حركة «الشبيبة الإسلامية» الراديكالية، التي اغتالت زعيم «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»، الشهيد عمر بنجلون، عام 1976، وهو ما زرع عداوة مزمنة بين التيارين تُرجمت بمواجهات دامية عدة في الجامعات المغربية، خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، أي في المدة التي كان فيها بنكيران وغالبية كوادر «العدالة والتنمية» الحاليين طلبة إسلاميين متشددين.
قرار الملك إعفاء بنكيران، بعدما وصلت مساعيه إلى طريق مسدود، تجلى فيه الحرص على حفظ ماء الوجه الدستوري، إذ استعاض عن بنكيران بالرجل الثاني في حزبه، سعد الدين العثماني، المعروف ببراغماتيته وبمرونة مواقفه تجاه القصر الملكي، وهو ما خوّله تولّي حقيبة وزارة الخارجية، في الحكومة السابقة، وهي من الحقائب السيادية التي تقع ضمن صلاحيات الملك.
لم تكد تمر عشرة أيّام على تكليفه، حتى خرق العثماني الخط الأحمر الذي شهره بنكيران طوال خمسة أشهر في وجه «الاتحاد الاشتراكي»، إذ أعلن رئيس الحكومة الجديد، في 25 آذار الماضي، استعداده لضم الحزب العتيد إلى ائتلافه الحكومي. هذا الأمر لم يمنع زعيم «التجمع الوطني للأحرار»، عزيز أخنوش، من خوض معركة ليّ أذرع جديدة أفضت إلى حصول حزبه على وزارة العدالة التي كان «العدالة والتنمية» يتولاها في الحكومة السابقة. وحاز «الأحرار» أيضاً وزارتي الاقتصاد والمالية، والصناعة والتجارة، فضلاً عن احتفاظ أخنوش نفسه بوزارة الفلاحة (الزراعة) والصيد البحري التي كان يتولاها في الحكومة السابقة.
أما حقائب «العدالة والتنمية»، فتقصلت إلى أربع وزارات هي: الطاقة والمعادن، والنقل، والعمل، والأسرة، فيما بقيت الوزارات السيادية (الدفاع، والداخلية، والخارجية، والأوقاف والشؤون الإسلامية) في أيدي شخصيات مستقلة عيّنها القصر.
هذه التوليفة الوزارية عكست نجاح استراتيجية الملك الهادفة إلى تحجيم «العدالة والتنمية»، رغم أنه حلّ أول في الانتخابات التشريعية. وقد شكل «التجمع الوطني للأحرار» حجر الزاوية في هذه الاستراتيجية، بإقامة «طوق من الأحزاب المتوسطة» لمحاصرة «العدالة والتنمية» والحدّ من هيمنته على الائتلاف الحكومي الجديد.
مع ذلك، لم يكتف القصر الملكي بتثبيت رجالاته في الوزارات السيادية، بل أعاد إحكام قبضته على مفاصل الدولة بضمّ وزارة العدالة إلى الوزارات السيادية، كذلك أعاد القصر بسط هيمنته، عبر حركة أخنوش، على مختلف القطاعات الاقتصادية، من المالية إلى الصناعة فالزراعة والصيد البحري.
ولا يعني هذا، بالطبع، العودة إلى سنوات «القبضة الحديدية» التي شهدتها البلاد في عهد الملك الحسن الثاني؛ فالتركيبة الحكومية الحالية حرصت على حفظ ماء الوجه الدستوري، باحترام مبدأ تعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي يحل أول في الانتخابات التشريعية. لكنّ صلاحيات «العدالة والتنمية»، في حكومة العثماني، باتت مفرّغة تماماً من أي نفوذ أو تأثير في القرار الإداري والسياسي والاقتصادي، ولم يعد بالإمكان القول إن الحكومة الجديدة تجسّد مبدأ المساكنة بين القصر الملكي والأحزاب ذات الأغلبية النيابية.
هل يعني ذلك أن النظام المغربي انتقل مجدداً من «الملكية الدستورية»، التي كرّسها دستور 2011، إلى خانة «الملكيات التسلطية»، وفق النموذج العربي العتيق؟ لا يمكن الجزم بذلك، ما دام القصر حريصاً على المعادلة السابقة.
المؤكد، كما كتبت صحيفة «تيل كال» المغربية، أن إعادة إحكام قبضة القصر، وإن بصيغة ناعمة، تجعل المغرب اليوم يقف «حيال وضع بين – بين: لا نظام تسلطيّ معلن، ولا ديموقراطية فعلية، وهو وضع يبرره بعضهم بضرورة الحفاظ على توازنات حساسة، لكنه وضع متأرجح يحكم على المغربي بالجمود وبالمراوحة مكانه».