سلسلة مواقف متدرّجة أطلقتها روسيا، إزاء هجمات الـ«توماهوك» الأميركية على مطار الشعيرات، بين تصريحات مبدئية رافضة لـ«العدوان على دولة ذات سيادة»، وبين اتهامات للأميركيين بممارسة «التضليل» في خان شيخون لتبرير فعلها في سوريا، وتغطية مجازرها في الموصل، وصولاً إلى إجراءات عملية، لاحت أولى بوادرها، حين قررت تعليق اتفاقية السلامة الجوية التي تم توقيعها مع الولايات المتحدة في عام 2015، ودعوة مجلس الأمن الدولي إلى الانعقاد للبحث في التطوّرات.
ويبدو أن حيلة «الإنذار المبكر» بشأن الهجوم الصاروخي التي لجأت إليها الولايات المتحدة، لتجنب ما لا تحمد عقباه مع روسيا من جهة، ولترك الباب موارباً أمام مبادرات سياسية من جهة ثانية، لم تكن كافية لمنع رد فعل روسي على الضربة العسكرية، والتي اعتبرها مجلس الأمن القومي الروسي «مخالفة للقانون الدولي».
أول المواقف الروسية جاء من الرئيس فلاديمير بوتين، حيث نقل عنه المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف تأكيده أن «الهجوم الأميركي على أهداف في سوريا عدوان سيضرّ بالعلاقات الروسية ــ الأميركية والحرب المشتركة على الإرهاب»، مشدداً على أن ما جرى يمثّل «عدواناً ضد دولة ذات سيادة» ويعد «انتهاكاً للقانون الدولي بحجج واهية».
وبحسب المتحدث الرئاسي، فقد اعتبر بوتين أن الضربات تأتي بمثابة «محاولة لتشتيت الأنظار عن سقوط ضحايا في العراق»، معتبراً في الوقت ذاته أن «التجاهل التام لحقائق استخدام الأسلحة الكيميائية من قبل الإرهابيين سيزيد الأمور سوءاً في وضعٍ متأزم أصلاً».
وبعد دقائق، كانت وزارة الخارجية تعلن تعليق العمل بالمذكرة الروسية ــ الأميركية حول ضمان سلامة التحليق في سماء سوريا، داعيةً مجلس الأمن الدولي إلى عقد اجتماع طارئ لبحث الضربة الأميركية.
ورأت وزارة الخارجية أن «بإمكان أي خبير أن يلاحظ بوضوح أن القرار بتوجيه الضربات اتخذ في واشنطن قبل الأحداث في إدلب، التي تم استغلالها كذريعة لإظهار القوة».
وذكّرت بأن وجود العسكريين الأميركيين، وعسكريي بعض الدول الأخرى في سوريا، من دون موافقة الحكومة السورية، أو خارج إطار قرار دولي، يمثل «خرقاً سافراً وفظاً وعديم الأساس للقانون الدولي»، لا بل ذهبت إلى حد اعتبار أنه «إذ كان قد جرى في السابق تبرير هذا الوجود بمهمة محاربة الإرهاب، فإنّ ما حصل اليوم (أمس) هو عدوان سافر ضد سوريا ذات السيادة».
على خط موازٍ، أطلق وزير الخارجية سيرغي لافروف سلسلة تحذيرات بشأن الآثار السلبية للهجمات الصاروخية على عمليتي آستانا وجنيف، عبر تحويل المسار السياسي الى سيناريو عسكري، معرباً في الوقت ذاته عن أمله بألا تؤدي الضربة إلى نقطة «اللاعودة» في التعاون بين روسيا والولايات المتحدة حول سوريا.
أما على المستوى السياسي، فكان لافتاً حديث وزارة الدفاع عن ضربة صاروخية أميركية ذات «فعالية قتالية متدنية». المتحدث باسم الوزارة الروسية، اللواء إيغور كوناشينكوف، أكد خلال مؤتمر صحافي، أن 23 صاروخاً من أصل 53، وصلت إلى قاعدة الشعيرات، أما بقية الصواريخ فسقطت في مكان مجهول، مشيراً إلى أن حصيلة الضربة كانت تدمير مستودع، وفصل دراسي، ومطعم، وست طائرات من طراز «ميغ 23».

كان لافتاً حديث
وزارة الدفاع عن
ضربة ذات «فعالية
قتالية متدنية»

وعرض المتحدث العسكري صوراً التقطتها طائرة من دون طيّار تظهر أن مدرج المطار والطرقات الجانبية ومواقف الطائرات ومستودعاتها الواقية لم تتضرر، لافتاً إلى أن الصواريخ لم تصب أهدافها على ما يبدو، بدقة، إذ سقطت على أبعاد تتراوح بين 100 و150 متراً عن مهبط الطائرات.
وفيما عكست التصريحات والإجراءات العسكرية تشدداً صارماً بشكل نسبي، في عدم غض الطرف على ما جرى، تشي الأجواء الموسكوفية بأن المقاربة الروسية لما بعد هجوم الشعيرات ستأخذ في الحسبان عاملين أساسيين: الأول، وقف العدوان الأميركي على الأراضي السورية، من خلال مواقف رادعة؛ والثاني، إبقاء المجال مفتوحاً امام تسوية سياسية، قبل اللقاء الأول المرتقب بين بوتين وترامب.
ويبدو أن روسيا تنطلق، في ذلك، من جملة سيناريوات تفسيرية للتحوّل السريع في مقاربة ترامب للملف السوري، بعد سيل الإشارات الإيجابية التي صدرت عن المسؤولين في الإدارة الأميركية خلال الأسبوع الماضي.
كذلك، تأخذ روسيا في الحسبان أن ما جرى أمس، ربما يعود في الأساس إلى صراعات داخل الإدارة الأميركية نفسها، سواء كان قرار القصف قد جاء نتيجة ضغوط من جانب النخبة العسكرية والمؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة على دونالد ترامب، أو أن الأمر حركة التفاف ترامبية على الخصوم الداخليين، في ظل تصاعد الانتقادات المتزايدة لسياسة التقارب التي روّج لها مع الجانب الروسي.
ومن المؤكد أيضاً أن روسيا تضع في الاعتبار سيناريوات أكثر تطرّفاً لتفسير الضربة، التي عززت التكهنات بشأن معركة مطارات تنوي الولايات المتحدة فتحها، بنسخة جديدة، بعد الإنزال الشهير في مطار الطبقة، وبدء التحضيرات لبدء العمليات العسكرية على الجبهة الشرقية، سواء في الرقة أو دير الزور.
ومهما تكن الفرضيات المطروحة على بساط البحث، فإن معظم التحليلات الروسية ذهبت في اتجاه واجد، وهو أن دونالد ترامب كشف عن وجهه الحقيقي، سواء في العلاقات مع روسيا، أو في مقاربة الملف السوري.
في هذا السياق، عنونت صحيفة «إزفستيا» في تغطيتها الرئيسية للهجمات الأميركية على موقعها الإلكتروني: «ترامب يرسل التوماهوك لإسعاد الإرهابيين».
وسجلت الصحيفة الروسية الواسعة الانتشار جملة ملاحظات؛ أبرزها «ما تردد من معلومات عن هجوم نفذه الإرهابيون قرب القاعدة الجوية، تزامناً مع الضربة الأميركة»، وتساءلت في هذا الإطار «في أي ميدان يلعب الأميركيون؟ هل يلعبون في ميدان الإرهابيين؟»، مشيرة إلى أن ما حصل يظهر أن «هناك دعماً أميركياً واضحاً للمجموعات الإرهابية، من خلال تقليص القدرة الجوية» للجهات التي تحاربها.
بدوره، كتب المحلل ماكسيم يوسين في صحيفة «كومرسانت»، أن «السياسة الخارجية لترامب بدأت اليوم»، بعدما اقتصرت حتى الأمس القريب على «العبارات والبيانات الملتبسة بجملها».
وأضاف: «طالما أن هذا الرجل باق في البيت الأبيض، فإن السياسة الأميركية ستبقى غامضة وغريبة، وستشهد استدارات إلى 180 درجة في غضون ساعات»، مشيراً إلى أنه «في ظل وجود هذا الرئيس بالذات، ينبغي على العالم أن يبقى متنبهاً قدر الإمكان، لأن احتمالية حرب عظمى، بما في ذلك حرب نووية، ستبقى قائمة، أكثر مما كانت عليه في عهد باراك أوباما».
ورأى أن روسيا قد تشعر قريباً بالندم على «زجاجات الشامبانيا» التي فتحها النواب الروس، احتفاءً بهزيمة هيلاري كلينتون، التي «من المؤكد أنها لم تكن لتصدر أمراً بشن ضربات صاروخية قبل أن تنتظر نتائج التحقيقات (في أحداث كتلك التي جرت في خان شيخون)، وقبل مشاورة أطراف أخرى، بمن فيهم فلاديمير بوتين».
وفي سياق آخر، خصصت «إزفستيا» جزءاً من تغطيتها للإجابة عن سؤال طرحه كثيرون أمس، حول أسباب عدم تصدّي أنظمة الدفاع الجوي الروسية المنتشرة في سوريا لصواريخ «توماهوك».
ولهذا الغرض، استطلعت آراء عدد من الخبراء العسكريين، من بينهم فلاديسلاف شوريغين، الذي أوضح أن أنظمة الدفاع الجوي المنتشرة في سوريا مخصصة لتغطية العمليات العسكرية الروسية دون سواها، لافتاً إلى أن ثمة قراراً سياسياً بعدم السماح باستخدام هذه المنظومات ضد جهات أخرى، بما في ذلك إسرائيل وتركيا، لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.
أما سيرغي سوداكوف، من الأكاديمية الروسية للعلوم العسكرية، فأشار إلى أن عملاً من هذا القبيل «قد يجر الطرفين إلى حرب نووية، لأننا سنكون، في هذه الحالة، أمام اشتباك بين قوتين نوويتين، على أرض ثالثة».
ويرى أن ترامب ينقل المواجهة اليوم إلى مرحلة تسمى «الحرب الساخنة»، مؤكداً أنه لولا التزام القيادة العسكرية الروسية بسياسة صارمة لضبط النفس، لكانت الأوامر قد صدرت لإسقاط صواريخ «توماهوك»، ما يعني، من الناحية العملية، إشعال فتيل حرب.