القاهرة | نفّذ «داعش» تهديداته يوم أمس. التنظيم التكفيري اختار التوقيت الأكثر حرجاً في مصر، داخلياً وخارجياً، لاختراق الساحة المصرية، من بوابتها الأكثر حساسية، عبر استهدافه المسيحيين.
ومع أن ردّ الفعل، الذي عبرت عنه صورة معبّرة في صمتها للبابا تواضروس، قد جعل البعض يتنفسون الصعداء، تجاه وعي الأقباط لمن يريد إشعال الفتنة، إلا أن الجرح القبطي سيبقى مفتوحاً، ولن تضمّده سوى إجراءات سريعة، تقدّم مرتكبي الجريمة إلى عدالة حقيقية، والأهم تدابير حاسمة لا تكتفي بشعارات «الوحدة الوطنية»، التي يُعاد تدويرها بعد كل عمل إرهابي يطالهم، بل تمتد إلى «قطع لسان» من يحرّض عليهم على منابر التكفير، المتعدّد الأوجه، وقطع يد من يرمي كنائسهم وبيوتهم بالحجارة.
وإذا كان مؤكداً أن مصر ستتجاوز «قطوعاً» جديداً في محاولات إشعال الفتنة الداخلية، فإنّ ما حدث أمس لا يبشر بخير، في المقاربة المتبعة من قبل الدولة المصرية على مستوى محاربة الإرهاب؛ فالثغر التي انكشفت في تفجيري الكنيستين، ربما تمثل «رأس الجليد» لثغر أكثر خطورة، تبدأ على مستوى الأمن الوقائي، ولا تنتهي عند مستوى تجفيف الفكر المغذي للإرهاب.

بات واجباً «قطع لسان» من يحرّض على الأقباط من على منابر التكفير


وبهذين التفجيرين اللذين تبنّاهما تنظيم «داعش» وأدّيا إلى سقوط 44 شهيداً على الأقل، وعشرات الجرحى، استقبلت مصر، يوم أمس، «أحد الشعانيين». التفجير الأول، استهدف كنيسة مار جرجس، في مدينة طنطا، عند التاسعة و10 دقائق، خلال قداس «أحد السعف»، حيث فجر انتحاري نفسه بحزام ناسف في الصفوف الأولى، ما أوقع نحو 27 شهيداً، فيما أصيب نحو 126 غالبيتهم في حالة خطرة.
أما التفجير الثاني، فكان محاولة لاغتيال بابا الإسكندرية والكرازة المرقسية، تواضروس الثاني، بعدما أنهى صلاته، وبدأ استقبال المهنئين بالشعانين، إذ فجر انتحاري نفسه عند بوابة التفتيش الإلكترونية عند مدخل الكنيسة المرقسية في الإسكندرية، موقعاً 17 شهيداً وعشرات الإصابات.
خلع البابا تواضروس بعد سماعه خبر تفجير كنيسة طنطا «صدرة الفرح» التي كان يرتديها وبدأ بها صلاته، فظل جالساً، لبعض الوقت، من دون أن يتحدث، عقب انتهاء الصلاة التي سارت بمسارها الطبيعي، مع إزالة معالم الفرح من صدره عقب وصول الخبر إليه.
التهاني التي كان يفترض أن يتلقاها البابا من شعب الكنيسة بعد الصلاة، تحولت إلى تعازٍ ودعوات للضحايا، ومتابعة لآخر الإحصاءات عن تفجير طنطا الأول، التي ظلت ترتفع كل ساعة، حتى استقرت، في حصيلة شبه نهائية، عند 27 شهيداً ونحو 75 مصاباً عدد منهم في حالة خطيرة، وتم نقلهم إلى مستشفيات القاهرة.
في تفجير الكنيسة المرقسية، كان الانتحاري يحاول الوصول إلى مكان بابا الأقباط، لكن الرائد عماد الركايبي أوقفه بعدما اشتبه فيه، وهو ما جعله يسارع في تفجير نفسه وقتل الركايبي وآخرين معه، خاصة من القوات التي كانت تحاول القبض عليه، فيما انتهى الحادث بمغادرة البابا الإسكندرية، عائداً إلى القاهرة، وسط إجراءات أمنية مشددة.
المثير للانتباه، في تفجير طنطا الأول، أن العملية الإرهابية تم تنفيذها بأسلوب مشابه لاستهداف الكنيسة البطرسية في القاهرة نهاية كانون الأول الماضي؛ فالانتحاري دخل الكنيسة وسط المصلين، مستغلاً ضعف الإجراءات الأمنية، وهو يضع حزاماً ناسفاً، إذ لم تتمكن إجراءات التأمين من كشفه، ففجّر نفسه سريعاً في وقت الذروة الصباحية للصلاة. واللافت أكثر أن الكنيسة نفسها شهدت قبل نحو أسبوعين محاولة تفجير عن طريق قنبلة تم تفكيكها بواسطة الخبراء، ما كان يفترض اتخاذ إجراءات أكثر تشدداً تجنّب مصر كارثة من اثنتين.
وبينما فرضت قوات الأمن طوقاً حول الكنيسة وبدأت تفريغ الكاميرات، انتقل فريق من النيابة العامة والمعمل الجنائي لرفع البصمات، فيما اعتدى الأهالي الغاضبون على محافظ الغربية، ومدير الأمن، واحتجزوهما في مقر الكنيسة، موجّهين إليهما اتهامات بالتقصير.

ووفق مصادر أمنية تحدثت إلى «الأخبار»، فإن غياب التزامن بين العمليتين، ساهم في تقليل الخسائر، خاصة في تفجير الإسكندرية، مشيرة إلى أن حالة استنفار قصوى اتخذت، وتم إرسال تعزيزات أمنية لحماية الكنائس بعد التفجير الأول، وهو ما ساهم في «يقظة إضافية للضباط وللجنود». وتستدرك المصادر بأن «التقصير في التفجيرين يبقى قائماً، ويكشف عن خلل جسيم في جهازي الأمن الوطني والمباحث الجنائية... رغم الصلاحيات الواسعة التي يتمتعان بها. لكن تصنيع القنابل، ووصول حامليها إلى الكنائس، يؤكدان إخفاق الخطط الاستباقية المعمول بها، ولا سيما في ظل وجود تهديدات معلنة من داعش قبل أكثر من شهرين باستهداف الكنائس».
هذه المصادر قالت إن وزير الداخلية أقال مدير أمن الغربية بعد تأكده من تقصير قوات التفتيش، وعجزها عن كشف المتفجرات التي دخل بها الانتحاري داخل مار جرجس، الأمر الذي ساهم في زيادة عدد الضحايا.

عودة «الطوارئ»!

في ظل تتابع التطورات، دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي، «مجلس الدفاع الوطني» إلى اجتماع، أعلن إثره حالة الطوارئ في البلاد لثلاثة أشهر، وذلك «بعد استيفاء الإجراءات الدستورية»، كما أصدر قراراً بتشكيل «المجلس الأعلى لمواجهة الإرهاب والتطرف»، داعياً إلى تغيير طريقة تعامل الإعلام مع الحوادث الإرهابية، ومطالباً أجهزة الأمن بتكثيف جهودها «لجلب القتلة والمجرمين أمام العدالة».
وأضاف في كلمة بثها التلفزيون من قصر الإتحادية الرئاسي، إن «المصريين أفشلوا محاولات تنظيم إرهابي فاشي للسيطرة على مقاليد البلاد»، في إشارة إلى جماعة «الإخوان»، لافتاً إلى أن «المواجهة مع الإرهاب ستسغرق وقتاً طويلاً وسيسقط فيها ضحايا من أبناء مصر». كذلك رأى أنّ «الهجمات تستهدف التفرقة بين المصريين وتفكيك نسيج المجتمع بغرض هزيمة مصر»، مطالباً «المجتمع الدولي بمحاسبة الدول التي تدعم الإرهاب».

أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي حالة الطوارئ في البلاد لثلاثة أشهر

يُذكر أن حالة الطوارئ فرضت في مصر منذ اغتيال الرئيس أنور السادات، وتسلم حسني مبارك رئاسة الجمهورية، وقد تم تطبيقها بمستويات عدة، ضد «الجماعات الجهادية» في مرحلة التسعينيات أو معارضي النظام الحاكم. وبعد «ثورة 25 يناير»، وتحت ضغط شعبي، ألغى المشير حسين طنطاوي، وكان رئيس المجلس العسكري خلال المرحلة الانتقالية، هذا الإجراء الذي ظل سيفاً مسلّطاً على الناشطين السياسيين.
وقبيل انعقاد «مجلس الدفاع الوطني»، كانت الرئاسة أعلنت أن السيسي، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، أمر بدفع عناصر من وحدات التأمين الخاصة بالقوات المسلحة لمعاونة الشرطة المدنية في تأمين المنشآت الحيوية والمهمة في محافظات الجمهورية كافة، علماً بأن هناك قانوناً سابقاً ينص على أن أيّ منشأة يشارك الجيش المصري في تأمينها، هي منشأة عسكرية، ويحاكم محاولو الاعتداء عليها أمام القضاء العسكري، كذلك فإن القرار الجديد ساري المفعول أصلاً منذ ثلاثة أعوام.
وأعلنت السلطات المصرية الحداد ثلاثة أيام اعتباراً من أمس، كذلك تم تنكيس الأعلام، في وقت توالت فيه برقيات العزاء والمشاطرة والدعم الدولية للرئاسة.
ومما لا شك فيه أن تفجيري أمس يشكلان تهديداً حقيقياً لجهود السيسي لـ«حماية الأقباط»، والحفاظ على شعبيته المرتفعة في صفوف القوى القبطية، ولاسيما أنهم دفعوا الثمن الأكبر منذ مشاركتهم بفعالية في «30 يونيو» ضد جماعة «الإخوان المسلمين»، وذلك بتعرضهم للقتل ولإحراق الكنائس والمنازل.
أما الآن، وبعد أسابيع قليلة من إجبار «داعش» الدولة المصرية على تهجير الأقباط من شمال سيناء، حماية لهم، بعد استهدافهم بصورة فردية بالرصاص، مروراً بتفجير الكنيسة البطرسية الذي أوقع 30 شهيداً غالبيتهم من الأطفال والنساء، يواجه السيسي، بعد حادثتي أمس، موقفاً صعباً يتطلب منه احتواءه بجدّية فائقة، حتى لا يخسر ظهيراً شعبياً يمثله المسيحيون. وهؤلاء لن تكفيهم، بعد اليوم، الإجراءات الشكلية التي قاربت بها الدولة، خاصة السيسي، هواجسهم المستمرة، ومنها على سبيل المثال الزيارات الثلاث للرئيس إلى الكاتدرائية.
وقبل نحو أربعة أشهر، نجح السيسي في احتواء غضب الأقباط جرّاء التقصير في حماية الكنيسة البطرسية بإعلان اسم المنفذ في اليوم التالي، خلال مشاركته في جنازة الضحايا. فهل سيكرر الموقف نفسه في جنازة الشهداء المقرّرة اليوم؟ والأهم من ذلك، هل يبدو ذلك كافياً لطمأنة مسيحيي مصر؟




زيارة البابا فرنسيس قائمة؟



بينما أدان البابا فرنسيس الثاني الهجومين على كنيستين في مصر، أمس، نقلت مواقع مصرية عن الأب رفيق جريش، وهو المتحدث باسم الكنيسة الكاثوليكية في مصر، نفيه إلغاء فرنسيس زيارته المقررة في الثامن والعشرين من الشهر الجاري.
وخلال عظته لمناسبة أحد السعف أمام عشرات الألوف في ساحة القديس بطرس، قال فرنسيس: «أصلّي من أجل القتلى والضحايا. أدعو الرب إلى أن يهدي قلوب من بثوا الرعب والعنف والقتل، وكذلك قلوب من ينتجون ويهربون الأسلحة». كما قدم تعازيه إلى جميع المصريين ورئيس الكنيسة القبطية الذي من المقرر أن يكون أحد مضيفيه خلال زيارته لمصر.
والزيارة، المقرر لها أن تكون ليومين، يشمل جدولها أيضاً لقاء مع الرئيس عبد الفتاح السيسي في القصر الرئاسي، وكذلك شيخ الأزهر، أحمد الطيّب، على أن يتوجّه البابا بعدها إلى «المؤتمر العالمي للسلام» لإلقاء كلمته وللاستماع إلى كلمة الطيب، فضلاً عن جملة لقاءات أخرى مع ممثلين عن السلطات المدنية وأعضاء السلك الدبلوماسي.
(الأخبار)