تحمل زيارة وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، إلى تل أبيب، دلالات ذات أبعاد استراتيجية، من ناحية إسرائيل. فهي لا تقتصر بأهدافها على مجرد تلقي عرض للتصورات المتبلورة لدى الإدارة الأميركية الجديدة تجاه المنطقة وتحدياتها، بل هي فرصة للدفع بالشريك الأميركي، لمواجهة ما أمكن من تهديدات ترى إسرائيل أنها قاصرة بذاتها عن مواجهتها منفردة.
وإذا كانت إسرائيل قد تلقت زيارة ماتيس بكثير من التفاؤل، فإنه تفاؤل مشبع أيضاً بالحذر، مع إدراك تل أبيب أن المهمة صعبة جداً ومحفوفة بالمخاطر التي من شأنها في نهاية المطاف أن تلجم الإدارة الأميركية عن تحقيق مصالحها كاملة، رغم الاندفاعة المعبّر عنها من ماتيس نفسه، في خلال جولته في المنطقة، وإطلاقه سلسلة مواقف تصعيدية ضد إيران وسوريا، وتأكيده ضرورة التصدي للنفوذ الإيراني في المنطقة.
تهديدات ماتيس لطهران، التي عاد وكررها في إسرائيل، تزامنت أيضاً مع مواقف تصعيدية، أطلقتها الإدارة الأميركية في خلال اليومين الماضيين ضد الجمهورية الإسلامية، وأيضاً ضد حلفائها في سوريا ولبنان، وأوحت بإمكانات معقولة نظرياً، للتوجه نحو مواجهة لم تتضح إلى الآن حدودها ومستوياتها، وربما أيضاً إمكاناتها العملية. لكنها معطيات كانت كافية، وغيرها مما أثير في الغرف المغلقة في خلال زيارة ماتيس لإسرائيل، كي يستند إليها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، للتشديد على وجود مقاربة أميركية جديدة للمسألة الإيرانية، هي موضع ترحيب إسرائيلي مطلق.
بالطبع، تدرك تل أبيب، وكذلك واشنطن، محدودية الفعل الإسرائيلي تجاه إيران، ومحدودية قدرتها على التأثير سلباً في ما تسميه «نفوذها» في المنطقة. من هنا، تحرص إسرائيل على لعب دور «المستشار» الذي يوفر المعطيات والتقديرات للشريك الأميركي، المتصدي علناً لإيران، مع محاولة التأثير تسللاً في توجهاته، لمزيد من الحدة في المواقف، وربما أيضاً في الأفعال.
من جهة إسرائيل، باتت الآن أكثر ارتياحاً قياساً بالماضي، لأنها في حد أدنى تحظى بإدارة أميركية جديدة لا تخشى ملامسة دوائر الخطر، على نقيض سياسة الرئيس السابق، باراك أوباما، الذي انتهج سياسة أكثر واقعية من منظوره إلى موازين القوى والخيارات البديلة المتاحة أمامه فعلياً. وإذا كانت إسرائيل لا تؤمل بالمطلق أن إدارة ترامب ستحقق ما تطمح إليه فعلاً، وبالكامل، فإن ما بين سياسة أوباما وما تطمح إليه، يعتبر خيار ترامب بالقياس للواقع، خطوة كبيرة جداً إلى الأمام.

تريد إسرائيل تدخلاً
أميركياً واسعاً أو توافقاً
كبيراً مع روسيا

باتت إسرائيل مدركة، بعد تجربة العدوان الأميركي على مطار الشعيرات في سوريا وما أفضت إليه من انكفاء لاحق، أن ترامب الذي لا يخشى ملامسة دائرة المخاطر، هو في المقابل حريص على تجنب تخطي هذه الدوائر والقفز عنها والتسبب في مواجهات، لكنها سياسة مرحب بها إسرائيلياً، وتحديداً تجاه إيران، لأنها تحمل إمكانات معقولة، وربما أيضاً من ناحية عملية، بأن تسبب تصعيداً وارتقاءً في التصعيد، وصولاً إلى مواجهة مطلوبة إسرائيلياً بقوة، بين إيران والولايات المتحدة، حتى إن لم يرد طرفا المواجهة ذلك.
وتستند تل أبيب في رهانها إلى خطأ حسابات إدارة ترامب، أولاً، وعلى يقينها بأن أخطاء الإدارة ستواجه بتصلب إيراني وردود، تأمل أن يسببا معاً مواجهة واسعة. هل الرهان الإسرائيلي في محله؟ سؤال لم تتضح إجاباته بعد، إذ إن ظروفه وإمكاناته غير محصورة فقط في طرفيه، بل تتداخل فيه كل ساحات المواجهة على اختلافها، بما فيها من مخاطر وفرص، لكنه رهان إسرائيلي «معقول ومطلوب»، وربما هو الرهان الوحيد في ظل انسداد الخيارات البديلة الموصلة إلى النتيجة نفسها، وقصور يد تل أبيب المباشرة عن تحقيق هذه النتيجة.
أما عن الساحة السورية، فتدرك إسرائيل أنها في ظل أي انكفاء أميركي، ستكون مجرد متلقية للأحداث، مع قدرة محدودة على التأثير. من هنا، تكون زيارة ماتيس فرصة لإعادة الإعراب عن تطلعاتها، ومحاولة دفع واشنطن كي لا تكتفي بتوجيه ضربة وحيدة في الساحة السورية (مطار الشعيرات) بل بالتدخل أعمق، على أن يكون التدخل واسعاً ومؤثراً جداً، ومن شأنه أن يحيد أو يقيد الوجود الروسي في سوريا، وتبعاً له حلفاءه فيها. وهو تدخّل من شأنه أن يؤثر بما يتوافق مع المصالح الإسرائيلية في تشكيل مستقبل سوريا المقبلة، ليراعي لها نظاماً أو أنظمة، أو ترتيبا سياسياً وميدانياً ما لا يعاديها إن لم يكن حليفها، مع إقصاء أعدائها عن الساحة السورية: الرئيس بشار الأسد، وحلفائه.
وكما هو واقع قصور يد إسرائيل عن مواجهة إيران مباشرة ومنفردة، هي أيضاً قاصرة عن مواجهة أعدائها في سوريا، ولذلك تتشابه المصلحة الإسرائيلية في الملفين، بضرورة التدخل الأميركي المباشر والعميق فيهما. وإن كان لا جدال في أن إسرائيل عاجزة عن التصدي لإيران منفردة، فهي كذلك في مواجهة تقاطع مصالح عميق بين روسيا وإيران وسوريا وحزب الله، حيث لا يمكن أي قوة إقليمية إنتاج توازن في مواجهة هذا التحالف.
من ناحية إسرائيل، وبوجه مؤكد، في الساحة السورية، أي تدخل أميركي محدود، يفضي إلى حرب باردة في سوريا بين واشنطن وموسكو، قد يكون أسوأ من الانكفاء الأميركي. الاشتباك المحدود بمعنى الحرب الباردة وتكريس وتعزيز التعارض بين المصالح بين القوتين العظميين في هذه الساحة، ستكون إحدى نتائجه هدر كل مصالح إسرائيل، وبما هو أوسع وأشمل من الساحة السورية. من هنا، إسرائيل معنية إما بتدخل أميركي واسع، وإما بتوافق واسع مع روسيا... وما دونهما وبينهما سيبقى كارثة استراتيجية على إسرائيل.
مع ذلك، العرض والتحريض الإسرائيليان أمام ماتيس، الذي لا يحتاج أساساً إلى تحريض إسرائيلي إن مكنته الظروف تحقيق مصالحه بالقوة، سيبقى في كلتا الحالتين، إيران وسوريا، مرتبطاً بالضابط الرئيسي: ترامب وتوجهاته وخطأ حساباته وقدرته على ملامسة الأخطار وما بعدها. ولجهة إسرائيل، فعليها أن تنتظر وتأمل... أو وفق تعبير وزير الأمن الاسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، بعد استقباله ماتيس: «نحن في إسرائيل سعداء برؤية توجه جديد في الإدارة الأميركية ضد الجهات الإرهابية، ولدينا الصبر لانتظار خطوات عملية، في هذا الموضوع».