هي المواجهة الرقم 29 مع الجلاد في سجون الاحتلال، وعدد جنودها هذه المرة 1500 أسير فلسطيني يضربون عن الطعام، وهو عدد محتمل للتزايد. هذا الإضراب الذي يمثل تمرداً على ظلم السجان وممارساته، جاء بعد إخفاق حوارات الأسرى مع ما يسمى إدارة المعتقلات لتحسين أوضاعهم.
معركة الأمعاء الخاوية، التي يخوضها الأسرى الفلسطينيون تعتمد على الإرادة أولاً بامتناعهم عن تناول أصناف المواد الغذائية الموجودة في متناولهم، باستثناء الماء والقليل من الملح، الذي تعرض للمصادرة هو الآخر، مع أهميته في الحفاظ على توازن الجسم خلال الإضراب.
هذه الخطوة التصعيدية ليست ترفاً، بل يلجأ إليها الأسرى بعد فقدان الأمل من الخطوات النضالية الأخرى. فذلك الإضراب المفتوح هو وسيلة لتحقيق هدف، وليس غاية بحد ذاته، لكنه يمثل في الوقت نفسه أكثر الأساليب النضالية أهمية في الفعالية والتأثير في الرأي العام العالمي.
لكن، كيف يحضر الأسرى للإضراب وما هي الاستعدادات الجسدية والنفسية التي تسبقه؟ قرار الإضراب تتخذه عادة قيادة الأسرى في "باستيلات" العدو، ويحتاج تنفيذه إلى ترتيبات مثل التواصل مع اللجان كافة في المعتقلات. بعد تحديد الموعد، وفي الليلة التي تسبق الإضراب، تغدو السجون شبه ليلة العيد، فالحدث وأجواؤه الممزوجة بالرهبة والاندفاع والترقب، تسيطر على تفكير وأحاديث الأسرى، الذين لا ينامون، لا لأنها الليلة الأخيرة لهم بدون طعام فقط، بل بسبب الحالة بحد ذاتها: الاجتماعات والألفة، والاستعداد لمحطة مختلفة سيتجاوزها الأسير وسيكون بعدها إنساناً مختلفاً، كما سيغدو أكثر قوة وثقة، وأشبه بعمادة بالنار، وانتقال إلى مرتبة أعلى في النضال.
وبينما قيادة الأسرى مشغولة بالترتيبات، وتحاول استغلال الساعات الأخيرة قبل بدء إدارة السجون هجمتها الشرسة، ينشغل بقية الأسرى بالتحضيرات اللوجستية، بوعي كامل وإدراك لطبيعة المواجهة. ينشغلون بتوقع السيناريوات، فتراهم يتجمعون ويناقشون كيف سيواجهون الإجراءات العقابية، كما يرفع أصحاب الخبرة في إضرابات سابقة سقف المعنويات، وتنطلق التوجيهات إلى الجدد حول كيفية التعامل مع الشائعات التي ستطلقها إدارة السجون، أو غرف العصافير (غرف تدسّ فيها جواسيس لها). ينظّم كل فصيل فلسطيني جلسات توعية قبل إعلان الإضراب، وينشغل آخرون بالمطلوب من الشارع الفلسطيني والعربي والمسلم.
بالتزامن مع الاستعدادات النفسية، يواصل الأسرى الاستعدادات الجسدية والتعبوية، فمنهم من يكلف كتابة الرسائل للإعلام، وآخرون يدققون قائمة المطالب، وجزء كبير منهم ينشغل بالاستعدادات الجسدية التي تستمر لعدة أيام قبل الإضراب، وتقتصر على تناول وجبات مليّنة للمعدة وللأمعاء، وأبرزها الشوربة، والهدف إفراغ معدتهم من الطعام، منعاً لتحجّر ما يتبقّى فيها من طعام مع استمرار الإضراب لأسابيع، ثم صعوبة إخراجه، كما قد يؤدي إلى أمراض ما بعد الإضراب.
يكثر الأسرى أيضاً من السوائل والحليب البارد مع السكّر والماء قبل الإضراب، ويقصّون شعرهم كله خشيةَ تساقطه مع استمرار إضرابهم، واستعداداً لمصادرة إدارة السجون المنظفات والصابون، في وقت يستهلك فيه الاستحمام طاقة كبيرة، ويستهلك الشعر أيضاً جزءاً من مخزون الغذاء في جسد الإنسان، كما أن الشعر مصدر للأوساخ وللأمراض.
تختار القيادة عدداً من الأسرى لإخفاء أكثر من جهاز راديو أو اتصال (هاتف) في أماكن سرية، كونه سيصير أداتهم الوحيدة للتواصل مع العالم الخارجي، ومعرفة حجم التضامن والحراك الخارجي المساند لهم، كما تحضر رسائل مسبقة في حال عزلت قيادة الإضراب، كما حدث مع الأسير مروان البرغوثي. كذلك يصاغ بيان إخباري شفوي ينقل من أسير إلى آخر بين الغرف والأقسام.
قسم آخر من الأسرى تكون مسؤوليته إخفاء الملح، وهو أهم الأدوات في الإضراب، لأنه يسهّل شرب الماء عندما يبدأ الجسم رفضه بعد مدة، ويخفف الرائحة التي يمكن أن تخرج من المعدة والفم. يبدع الأسرى في اختيار المخابئ لهذه المادة الثمينة، نظراً إلى اكتشاف إدارة السجون في إضرابات سابقة أماكن الملح في الغرف.
الحالة التنظيمية المدهشة للأسرى داخل السجون تنعكس إيجاباً على استمرار الإضراب وانتصار الإرادة على السجان، فيما يساند الخارج، ويكون بذلك للأسرى دورهم في قيادة شعبهم من خلف القضبان. سيظل مثل هذا الدور ما دام الصراع قائماً لأنهم من يعطون مثالاً حيّاً وقل نظيره في الاستعداد للتضحية، بدمهم في البدء، ثم بحريتهم إن هم وقعوا في الأسر ولم يستشهدوا في ساحات المواجهة مع المحتلين، وما ذلك منهم إلا لحرية هذا الشعب وحقه في استعادة كامل وطنه بتحريره والعودة إليه.