صبا، ربة منزل، توقفت منذ اندلاع الحرب في سوريا عن إرسال أولادها إلى مسجد الحي الذي تسكن فيه، رغم أنهم كانوا مواظبين سابقاً على حضور حلقات الدعوة وتعليم القرآن. تبرر موقفها بالقول: «بت أخاف عليهم من الذهاب مع تيار يبعدهم عن الدين الصحيح، ولا أريد لهم أن يحملوا صورة التشدد الديني غير المحمودة وخاصةً في هذه الأيام».
كذلك فعل الطالب الجامعي أحمد الذي انسحب شيئاً فشيئاً من دروس الدين في منزل أحد الشيوخ، شارحاً أسباب موقفه: «الشكل الذي ظهر عليه داعش وقبله جبهة النصرة كوّن حاجزاً لدى البعض من الغوص في تعلّم الدين الإسلامي، ورغم أنني مدرك للفرق الشاسع بين داعش والإسلام، إلا أنني أعرف المجتمع الذي أعيش فيه والذي يعمم أي فكرة يكتسبها دون وعي، فلا أريد أن يقولوا عني داعشي».
تظهر الإحصائيات الرسمية التي حصلت عليها «الأخبار» تراجع عدد الطلاب في كثير من المدارس والمعاهد الدينية خلال سنوات الأزمة. فمثلاً بلغ عدد طلاب المدارس الثانوية الشرعية للعام الدراسي 2014-2015 نحو 13 ألفاً مقارنة بأكثر من 29 ألف طالب في العام الدراسي 2011-2012، كذلك كانت الحال في المعاهد الشرعية التي تراجع عدد طلابها من 5936 طالباً في عام 2011 إلى 3966 في العام الحالي، والأمر نفسه في معهد الشام العالي للعلوم الشرعية واللغة العربية والدراسات والبحوث الإسلامية، ففي فرع «فتح الإسلام» تراجع عدد الطلاب من 6660 في عام 2011 إلى 3933 في العام الدراسي الحالي، وإلى 3866 بعد تحوله إلى جامعة خاصة. ولم يخرج مجمع الشيخ أحمد كفتارو عن السياق، إذ بلغ عدد طلابه في عام 2011 نحو 3 آلاف وفي العام الحالي تراجع العدد إلى 1498، وإلى 1175 بعد تحوله إلى جامعة خاصة.
وحتى العدد الإجمالي لطلاب كليتي الشريعة في جامعتي دمشق وحلب، والمستجدين منهم حصراً، شهد تراجعاً وإن كان بسيطاً، ففي عام 2010 بلع عدد الطلاب المستجدين في الكليتين نحو 1989 طالباً وفي العام الدراسي الماضي تراجع العدد إلى 1731 طالباً.
قد لا تكون ردة الفعل التي أحدثتها جرائم تنظيم «داعش» هي السبب الوحيد، فهناك عوامل أخرى أفرزتها الأزمة اقتصادياً واجتماعياً، كان لها تأثيرها الفاعل ليس على التعليم الديني فقط، وإنما على القطاع التعليمي ككل.

ذريعة السوء!

قد تكون الأمور عادت لمجاريها، فرئيس اتحاد علماء بلاد الشام وعميد كلية الشريعة في جامعة دمشق، الشيخ الدكتور محمد توفيق البوطي، يؤكد أن «غالبية الناس بعد فترة قصيرة من ظهور مستخدمي ستار الدين ذريعة لأعمالهم الإجرامية، استطاعوا التمييز بين الإسلام الصحيح وما نسب زوراً للإسلام». ويعتبر أن حلقات التعليم الديني المسجدية كانت تقوم بدورها الصحيح، وأنه في بداية الأزمة ومع بدء انتشار الفوضى والاضطرابات في مدينة دمشق تراجع كم حلقات الدعوة المسجدية بسبب خوف الناس من التنقل ومغادرة بعضهم أماكن سكنهم، واليوم عادت إلى ما كانت عليه بل وأفضل من ذي قبل، سواء حلقات عمل الدعوة أو دورات التعليم الفقهي، والتي تعزز الصورة الدينية الصحيحة عن الفكر الإسلامي.

تراجع عدد الطلاب في كثير من المدارس والمعاهد الدينية خلال سنوات الأزمة

وعن حلقات الدعوة المنزلية يقول: «لم يعد هناك ما يستوجب وجودها، وهي اليوم غير مسموحة إلا في حالة استثنائية واحدة، عدم قدرة الشيخ المعلّم على مغادرة منزله لوضع صحي معين، لأنها ستكون ذريعة لبث أفكار غير سليمة تسيء للفكر الإسلامي الصحيح».
وهذا أيضاً ما يذهب إليه رأي مدير أوقاف ريف دمشق، الشيخ الدكتور خضر شحرور، الذي يؤكد أن «السوريين بشكل عام متدينين بالفطرة، والأفكار المضللة التي أتى بها داعش أو جبهة النصرة لن تبعدهم عن دينهم وممارسة طقوسه، ورغم التأثير السلبي على نفسية الناس في بداية ظهور تشويه صورة الدين الذي انعكس على حضور خطب الجمعة والصلوات وحلقات الدعوة وحتى التعليم الشرعي، إلا أنه اليوم عاد إلى ما كان عليه قبل الأزمة بسبب الارتداد العكسي لعدم وضوح رؤية الدين لدى البعض».

مفرقا طريق

ثمة رأي آخر، فحلقات التعليم الدينية «المسجدية» أو «المنزلية» لم تنحسر بشكل كبير، وإنما تقلصت إلى حدٍّ ما. وبحسب المدرّسة في قسم علم الاجتماع في جامعة دمشق الدكتورة حنان ديابي فإن أحد أسباب ذلك هو «التشوه في التوزيع الديموغرافي للسكان الذي سببته الأزمة، وخاصةً أن مثل هذه الحلقات قائمة على ثقافة علاقات الحي»، وتشاركها الرأي زميلتها المدرّسة أيضاً في الكلية نفسها الدكتورة إيمان حيدر، التي تعتبر أن «الوظيفية الحقيقية لتلك الحلقات هي دمج الدين بالمجتمع، إلا أنها لم تحقق تلك الوظيفة بالشكل الأمثل وخاصةً في ظل غياب السلطة الأسرية». وتضيف: «لم تكن قادرة على خلق وعي إسلامي صحيح، وفي المقابل كان هناك ضعف إعلامي بتكوين صورة ذهنية واضحة لممارسات الدين السليم، فلم يتم إنشاء جيل واعٍ قادر بكامله على التمييز بين المتدين والمتطرف».
هذا الضعف الإعلامي لا يعني تحميل الإعلام المسؤولية لوحده بحسب المدرس في كلية الإعلام في جامعة دمشق الدكتور عربي المصري. فهو «يتشارك بهذه المسؤولية مع مؤسسات أخرى تعليمية وتربوية واجتماعية وغيرها، والبرامج الدينية المتخصصة هي إحدى أشكال عمل الدعوة الذي له أثر كبير على الفكر الديني كونه يتم عبر وسائل الاتصال الجماهيري. إلا أن المشكلة تكمن في عدم وجود ضوابط تحكم تلك البرامج، فكان بعضها يقوم على استغلال المنبر الديني لبث فكر متعصب، مقابل وجود برامج أخرى تبث الفكر المعتدل».
ويوضح المصري في حديثه لـ«الأخبار» أنه للتخلص من تلك الإشكالية «يجب على الإعلام أن يعلّم ويحصن الناس لتلقي المعلومات الصحيحة فقط، وأن يتم تطبيق قواعد ومواثيق الشرف الخاصة بمضامين الرسائل الإعلامية، إلى جانب تفعيل مؤسسات المجتمع الأهلي ليساند الإعلام في هذه المهمة، وأنه لا يمكن للإعلام أن يقنع المشاهد بصورة المتدين الصحيحة ما لم توجد ممارسات لجماعات دينية على أرض الواقع تثبت لهم ذلك، خاصةً أن الإعلام العام غير المختصص عادة ما يتجاهل مواضيع الدين مبتعداً عن الثالوث المحرم قدر الإمكان».