مرّ عيد العمال على السوريين هذا العام بلا أي ضجيج. الصخب المعتاد المرافق للمتاجرة بجهدهم وعرقهم خفّ بدوره، بعدما صار الكثير من المواطنين والمواطنات عمالاً يلهثون للحصول على أجرة لقمة عيشهم وحاجات أطفالهم. وبرز في المقابل دخول المرأة السورية على قائمة "الخدمة" في البيوت، بحكم الحاجة إلى كسب الرزق لمواجهة ارتفاع مستوى المعيشة ومقاومة ضغوط الحرب ومتطلباتها. أما العاملات المنزليات الأجنبيات، فما زال الكثير من بيوت الأغنياء يحتفظ بوجودهن، كنوع من «البريستيج» الاجتماعي، أو بسبب حاجة «سيدات المجتمع» إلى "خادمة" مقيمة تعوّض انشغال ربة المنزل خارج بيتها، بحسب عملها أو عمل زوجها أو منصبه.
وفي ظل تقلّص الطبقة الوسطى في سنوات الحرب، تناقص وجود الأجنبيات كعاملات في معظم المنازل، على اعتبار سوريا بلداً خطراً، إلى جانب التكاليف الباهظة لاستقدامهن وسط ارتفاع الدولار مقابل الليرة السورية. وجاءت الصدمة الاجتماعية الأبرز في هذا الملف عبر فتح مكاتب بديلة لتأمين عاملات سوريات مقيمات أو بساعات عمل محدودة، جاهزات للسفر إلى أيّ محافظة سورية تقع تحت إدارة الحكومة. صور متلاحقة عبر شبكات التواصل الاجتماعي لنساء محجبات أو مكشوفات الشعر، بحسب الوضع الديني والثقافي والاجتماعي للأسرة الراغبة في تشغيل خادمات.

يحجم الأغنياء عن توظيف عاملات سوريات خشية
«طول ألسنتهن»!
«اختر خادمتك السورية بأجر شهري يتراوح بين 50 ألف ليرة و75 ألفاً»، أي ما يعادل 150 دولاراً. والابتسامة في الصورة واجبة، فالهيئة وسماحة الوجه ضروريتان للتعامل مع الأطفال، ليبقى السؤال عن حال هؤلاء النسوة القادرات على مواجهة المجتمع السوري «المحافظ»، بصورهن كعاملات يوميات في المنازل. ولعلّ الحرب إحدى أبرز الإجابات الحاضرة في أذهان السوريين، كمسبّب رئيسي لتبديل المواقف والظروف ومدى تقبّل الظواهر الجديدة.

عاملة أم خلية «نائمة»!

تقيم «سحر» في أحد المستشفيات في مدينة اللاذقية. الفتاة الثلاثينية جاهزة للعمل في تنظيف المراحيض مقابل تأمين مبيتها ليلاً في إحدى غرف المستشفى وإطعامها يومياً، على الرغم من نيلها شهادة جامعية. لا مكان تلجأ إليه الفتاة بعدما هربت من عائلتها في مدينة إدلب، مباشرة إثر سقوط المدينة في أيدي مسلّحي «جبهة النصرة» وحلفائها. تحاول سحر الوصول إلى منزل عائلة «مقتدرة وطيبة» للعمل كمساعدة منزلية ومربية للأطفال، غير أن محاولاتها ما زالت تبوء بالفشل. وما تكاد الفتاة الإدلبية تقصّ حكايتها على أيّ زوجين يطلبانها للعمل في منزلهما، حتى يرفضا تشغيلها. أحد إخوة الفتاة معتقل في سجون الدولة السورية بتهمة قتال الجيش، فيما أشقاء آخرون لها في تركيا. ورغم أنها تحاول جاهدة نفي شبهة وجود أيّ من إخوتها بين صفوف المسلحين المقاتلين للجيش في إدلب، فإن ذلك لم يكسبها أيّ تعاطف، بل صار التعاطي معها بوصفها «خلية نائمة». مكاتب "الخادمات السوريات" ظاهرة فريدة، إذ ليس على المرأة سوى تزويد المكتب ببياناتها وصورتها وآلية التواصل معها، في حين يجيب إداريو مكتب التخديم على تساؤلات الأسر الراغبة في الحصول على خادمة من أهل البلد. وعلى الرغم من تعبير الكثير من النساء عن رغبتهن في تأمين فرصة عمل داخل بيوتهن لنساء من ذوي الشهداء أو فقراء الحرب، كناية عن التخوّف من إقامة "خادمة أجنبية" في المنزل، باعتبارها غريبة عن عادات المجتمع والتربية التي يتمناها السوريون لأبنائهم، إلا أن اقتناء عاملة منزلية أجنبية يحدّده قدر الثروة التي تملكها الأسرة. وكلما ازداد غنى المرأة ومنصب زوجها، فهي ستردّد حتماً: «الخادمة الأجنبية أفضل للأطفال بفعل قدرتها على التحدث معهم باللغة الانكليزية. كذلك فإنها غريبة عن المجتمع، ما يعني أنها قصيرة اللسان وبعيدة عن إفشاء أسرار المنزل». عبارات تختصر جوهر الصراع بين الغني والفقير في البلاد، بعدما وصل فحش الثراء بالنسبة إلى أغنياء الحرب حدّ النفور حتى من استعباد الفقراء، بحجج سطحية تتعلق بالخشية من حسدهم وطول ألسنتهم.

اتجار باهظ بالأشخاص!

آلاف "الخادمات الأجنبيات" حللن في منازل أثرياء سوريين، خلال سنوات الحرب، معظمهن من الفيليبين وسريلانكا وإثيوبيا وإندونيسيا وبنغلاديش. وألزم المرسوم التشريعي الرقم 65، لعام 2013، بتسديد صاحب مكتب استقدام العاملات الأجنبيات مبلغ 15 مليون ليرة، ككفالة غير مشروطة، تسدّد وفقاً لعقد يبرم في مصرف مرخص، لضمان حقوق العاملة الأجنبية. وتزيد قيمة الكفالة المذكورة عشرات الأضعاف عن قيمة الكفالات المماثلة لاستقدام عاملات أجنبيات في بلدان مجاورة، كلبنان مثلاً. الكفالة ذاتها في سوريا لم تتجاوز قبل الحرب مبلغ 5 ملايين ليرة، فيما يعتبر العمل على استقدام "خادمات أجنبيات" للعمل في المنازل، وفق القانون السوري، اتجاراً بالأشخاص، في حين لم يشرح أيّ من رجال القانون السوري أو مسؤولي البلاد وضع عمالة النساء السوريات كخادمات في المنازل داخل الدولة وخارجها، وسط عجز الحكومة عن تأمين فرص عمل تحترم إنسانيتهن وكفاءاتهن، خارج مقاييس العبودية المتزايدة. والأسوأ أن كثيرات منهن من عائلات الشهداء.