اعتقلت للمرة الأولى مع مجموعة تابعة لـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» عام ١٩٩١، وكان عمري ١٦ عاماً. لم يدم اعتقالي كثيراً، لأنه وفق قانون المحاكم الإسرائيلي حينذاك، لا ينفذ الحكم على قاصر. أفرج عني وعن المجموعة، إذ كان أكبرنا عمره 16 عاماً.
عام ١٩٩٤ اعتقلت لأنني كنت «ممولاً» لمجموعة كانت مهمتها رمي الزجاجات الحارقة على جنود الاحتلال وتنفيذ عمليات أخرى. لا أزال أذكر بالتفصيل ليلة الاعتقال. كان حظر التجوال اليومي، الذي فرضه جيش العدو الإسرائيلي على غزة، سارياً من الثامنة مساءً حتى الخامسة فجراً. ليلة اعتقالي في 24/1/1994، كان أربعة أصدقاء نائمين في منزلي، وفي تمام الواحدة فجراً، سمعنا طرقاً شديداً على باب البيت. فتح والدي الباب، وبقينا في أماكننا. دهم جنود العدو المنزل، وطلبوا من والدي هويته الشخصية وذكر أسماء أولاده.
عندما وصل إلى اسمي، قاطعه ضابط الاستخبارات، وسأله: «أين هشام؟». أجابه أبي: «نائم في غرفته». فوراً اقتحموا الغرفة، وكنت نائماً بين أصدقائي. قلب أحدهم الفراش الذى أنام عليه، وشدني إليه. استغربت كيف عرفني من بين خمسة أشخاص نائمين؟ عندما نظرت حولي، رأيت ملثماً، ما يعني أنه عميل من المنطقة التي أسكنها ويعرفني. ارتديت ملابسي بسرعة، لأنني كنت أعرف ما ينتظرني بسبب خبرتي السابقة.
سلمت نفسي بسرعة، ولم أقاوم خوفاً من اعتقال أصدقائي، إذ كان اثنان منهم مطلوبين لقوات الاحتلال. خرجت وسط صراخ الأهل ووالدتي المريضة. أخذوني إلى مقر قيادة جيش الاحتلال في مخيم جباليا، الذي كان يعرف بـ«الإدارة المدنية». بدأ الجنود ضربي وشتمي، وهو إجراء «طبيعي» مع المعتقل. هذه المرحلة من أصعب مراحل الاعتقال، وفيها تعرضت لأبشع أنواع الإهانة النفسية.
بعد اعتقالي حُوّلت إلى مركز التوقيف الذي تشرف عليه الاستخبارات الإسرائيلية. في مركز التوقيف ــ التحقيق، الذي كنا نسميه سجن أنصار 2، تيمناً بسجن أنصار في الجنوب اللبناني، عرفت ما ينتظرني من تعذيب في خلال التحقيق بهدف انتزاع معلومات عن الخلية ونشاطها وعلاقتها بالمقاومة.

الضرب العشوائي أسعد
اللحظات لأنه إعلان إفلاس
باقي الأساليب


اعتمد ضباط الاستخبارات ابتداءً، الذين هم في الغالب مبتدئون ويأتون لكسب الخبرة، الأساليب النفسية التي تعتمد على المعلومات الجاهزة لديهم عني. تركت في الزنزانة لأيام طويلة دون أن أُستدعى إلى التحقيق، ما ضيّعني وشوّش تفكيري. كذلك وضع العدو معي في زنزانة المعتقل «عصفوراً». و«العصافير» صفة تطلق على عملاء الاحتلال الذين يوضعون في الزنزانة لمحاولة انتزاع اعتراف ومعلومات تفيد الاستخبارات في تحقيقاتها. عمد «العصفور» إلى التقرب مني وإيهامي بأنه مقاوم، وما إلى ذلك من أساليب كانت مكشوفة ومعروفة، بسبب تجربتي السابقة.
أما أبشع أنواع التعذيب، فهو حرماني النوم عبر الطرق المتكرر على باب الزنزانة وسكب المياه الباردة عليّ. ومن سوء حظي أنني اعتُقلت في كانون الأول. بعد استنفادهم الطرق النفسية، بدأ التعذيب الجسدي. أجلسوني على قطعة خشبية وُضعت بنحو مائل، ورُبطت يداي ورجلاي معاً، وتُركت لأيام عدة. لم أنطق بحرف. بعدها استخدم العدو معي أسلوب «القوس». نمت على قطعة خشبية بطول العمود الفقري، ومرتفعة نصف متر عن الأرض تقريباً. رُبطت يداي وقدماي ببعضهما خلف القطعة الخشبية، ما جعل شكل جسمي أشبه بالقوس، ومن هنا عرفت سبب الاسم.
بالإضافة إلى هذا النوع من التعذيب، كان هناك تعذيب آخر داخل غرفة التحقيق يمارسه ضابط الاستخبارات. في إحدى المرات قال لي الضابط إنه ينوي تجربة «دعسة البنزين»، عليّ. لم أفهم التوصيف إلى أن قيدني بالسلاسل، وربط قدميّ بالكرسي على شكل رقم سبعة، وبدأ بالضغط بقوة على عضوي التناسلي. أما أصعب ما تعرضت له من تعذيب جسدي، فكان خنقي وإغلاق مجرى التنفس. إذ كان المحقق يضع إبهامه وسبابته حول حنجرتي ويضغط عليها، بينما كان ينظر إلى ساعته. وعندما كان يشعر بأنه سيُغمى عليّ، يُفلت أصابعه، ما جعلني أشعر بأنني أرى الموت.
بعدما يئس المحقق ووجد أنه لم يستطع تحصيل معلومة قيّمة، بدأ بضربي عشوائياً. وبرغم ألم الضرب، لكنه كان من أسعد اللحظات، لأنني كنت أعلم أنني سأخرج من بعده. بعد الانتهاء من التحقيق، عرضت على القاضي الذي حولني إلى الاعتقال الإداري. لا أخفي أن الحظ لعب دوره معي، فمحامي الدفاع كانت تربطه علاقة جيدة مع القاضي، وكان قد رشاه، فخفف الحكم عني من ٤٠ سنة بسبب احتراق جندي أصيب بإحدى الزجاجات الحارقة إلى عشر سنوات.
في خلال قضائي الحكم في الأسر، وضعت في معتقل النقب، أو ما يطلق عليه «كتسيعوت»، وهو يخضع لإدارة الشرطة العسكرية في جيش الاحتلال، وكان يتكون من 6 أقسام: أ ــ ب ــ ج ــ د ــ هـ ــ 7. وقسم 7، أو ما يطلق عليه بالعبرية «كلي شيفع»، كان مخصصاً للأسرى الإداريين، وما يميزه أنه معزول كلياً عن باقي الأقسام، وكان قريباً نوعاً ما من الحدود مع مصر، ما مكننا أحياناً من رؤية العلم المصري.
من إحدى تجاربي في السجن في كانون الثاني 1991، قصف الجيش العراقي مفاعل ديمونا. كانت الفرحة لا توصف، خصوصاً عندما كنا نرى الحراس يهربون إلى الغرف المحصنة وهم يضعون الأقنعة الواقية من الغاز خوفاً من الأسلحة الكيماوية العراقية عند سماعهم أصوات صفارات الإنذار. كنا فور سماعها نبدأ بالتهليل والتكبير، ما كان يغيظ إدارة السجن، حتى قررت في أحد الأيام إحضار دبابات الميركافاه وبدأت ببث دخانها الأبيض الكثيف علينا، فيما ألقى الحراس قنابل الغاز المسيل للدموع، حتى أصبحنا لا نستطيع رؤية بعضنا.
في ذلك الزمن، كانت المعتقلات تختلف نوعاً ما عن حياة الأسرى الآن الذين يقبعون في سجون مركزية تتبع لمصلحة السجون، ومن خلفها وزارة الداخلية الإسرائيلية. لكن حياة الأسير يحكمها الاشتباك والاحتكاك والاعتراك الدائم مع إدارة المعتقل. وكان من أصعب المواجهات الإضراب عن الطعام بهدف تحسين وضع الأسرى المرضى ونوعية الطعام، وإدخال الكتب، وهي المعركة الجماعية التي يخوضها الأبطال اليوم، ورغم أنني لا أتمنى أن أكون في السجن مجدداً، لكنني أتمنى أن أكون معهم، بجسدي قبل قلبي.
(الأخبار)