حلب | يجلس خضر علي الصالح في محلّه التجاري في سوق الجلّوم (حلب القديمة) محاطاً بعدد من الشبّان، من بينهم ابنه وبعض الجيران. في صدر المحل الذي يبدو أنّه رُتّب حديثاً تتموضع آية الكرسي وصورة والده «الحجّي أبو خضر»، بينما عُلّقت على الجدران بعض قطع الملابس النسائيّة، وعلى الطاولات أكوامٌ من الألبسة القطنيّة تنتظر الترتيب.
يهبّ الرجل الخمسيني لاستقبالنا بعبارات ترحابٍ حلبيّة ينطقُها بلكنة هجينة، ويُضاعف حفاوته مع معرفته بأنّنا صحافيون «ميت السّلامة، على راسي الصحافة كلها». يتضح أن الرجل من أبناء الحسكة، لكنه وفد وعائلته إلى حلب قبل عشرين عاماً وافتتح هذا المحل. نسأل عن البضاعة المنثورة بكمية متوسطة على الطاولات «من المستودع؟» فيجيب بالنفي، قائلاً: «لا والله بضاعة جديدة، جبنا شوي من الورشة وتسوقنا اليوم بـ200 ألف (نحو 400 دولار)». يدير الصالح ورشةً مُستأجرة لتفصيل الألبسة القطنية الداخلية وخياطتها في منطقة الأعظميّة (محسوبة على الأحياء الغربيّة)، وهو جلب بعضاً من منتجاتها إلى محلّه واشترى أصنافاً أخرى لـ«تكتمل التشكيلة». كان هذا النمط من المحال التجاريّة الشعبيّة لبيع الألبسة (بالمفرّق) سائداً قبل الحرب في السوق المتوزع بين شارع المسبح وبعض الشوارع المحيطة به في «محلّة الجلوم الكبرى»، لكنّه يبدو اليوم أشبه بوشم غريب يحيط به الخراب وسط شارع مقفر، وهذا ما استرعى انتباهنا واجتذبنا إليه. يجيب الرجل عن أسئلتنا حول سير العمل بابتسامة شاحبة وعبارة واحدة: «الحمد لله على كل حال». أمام بحثنا عن إجابات أكثر تفصيلاً يشرح الرجل أنّ نمط تجارته يتطلّب عودة العافية إلى السوق كي يبدأ بالازدهار «أيام زمان كان الناس يجيئون إلى سوق المدينة لشراء حوائجهم، وكان معظم زبائننا من الأرياف أو مناطق هالصّوب (مشيراً بيده ناحية الأحياء الشرقيّة الشعبيّة)». لا يجافي الصالح الحقيقة، ففي ما سبق كان أبناء المدينة يفضلون لشراء ملابسهم الأسواق الحديثة مثل التلل والعزيزية وبستان القصر وسيف الدولة وغيرها، حافظ سكان الريف وأبناؤه من سكّان المدينة وبعض سكان الأحياء الشعبية على ارتياد الأسواق القديمة. من دون إفراط في الشكوى يُفهمنا الصالح أن حركة البيع سيئة (وربما معدومة) فلا السوق عاد وجهةً بعد، ولا زبائن يمرّون مصادفة بالمحل، إذ لم تعد إلى السوق وظيفة كونه طريقاً للعائدين من وسط المدينة إلى منازلهم في الجهة الأخرى منها (مثل محيط القلعة وباب المقام والمعادي وجب القبة وسواها). يتدخّل ابن الحاج خضر في الحديث، باحثاً عن كوّة أمل قد يشكلها الإعلام لطرح مشكلة عامّة يصبّ حلها في مصلحة تجارتهم «يا خيو إنتو مو صحافيين؟ إحكولنا عن هالمشكلة بركي بتنحل». نطلب التفاصيل فيقول: «إذا كانت الدولة تريد تنشيط السوق فعلاً، فيجب التحرك سريعاً لإزالة أكوام الأنقاض والأتربة الهائلة، نحن فعلنا ما نقدر عليه، لكن الأمر أكبر من طاقتنا». يشير الشاب إلى النقاط التي يقتضي ترحيل الأنقاض منها جهوداً حكوميّة «في كذا منطقة وخاصة مدخل سوق الشام وسوق الزرب». وبالفعل، كنا قد حاولنا قبل قليل المرور من خان الجمرك نحو سوق الشام، لكنّنا اكتشفنا أن الطريق مغلق بأكوام كبيرة من الأنقاض. يشرح الموجودون أن جهود أصحاب المحال وبعض السكان (يضم حي الجلوم بيوتاً سكنية ومحال تجارية) أثمرت تنظيف بعض الشوارع من المخلفات والأتربة، لكن الأكوام الكبيرة تحتاج إلى آليات ولا ينفع معها العمل اليدوي. «بعدين في محلات فيها أحجار كبيرة بتكون لمباني أثرية مهدمة، وممنوع نحن نمد إيدنا عليها» يقول أحدهم. وتفاقم هذه العقبة معاناة أصحاب المحال التجارية، لأنّ انسداد بعض النقاط المفصليّة يحول دون إفضاء الطريق إلى محيط القلعة كما كانت الحال سابقاً، ما يؤدي بالتالي إلى انخفاض الحركة داخل السوق. يُجمع الكل على أن عودة الحياة التجارية تدريجاً ليست أمراً صعباً، لكنها تحتاج «خطوة أولى من الجهات الحكومية». يعددون سريعاً أسماء مالكي ما يزيد على عشر محال تجارية في غير نقطة من السوق جاؤوا وتفقدوا محالهم وأصلحوها ونظّفوا محيطها، لكنهم لم يباشروا نشاطهم في انتظار ترحيل لأنقاض وفتح الطرقات». بينما يبتسم الحاج خضر بفخر، ويقول: «كل شغلة بدها حدا يبداها ونحن حبينا نكون البداية وفتحنا». نشكر الصالح على الشاي الذي أصرّ على تقديمه إلينا، ونغادر بينما يشرح لنا جاره أنّ نحو نصف البيوت السكنية في الشارع قد عاد أصحابها إليها. يقول إنّ «المتطلبات لبداية التعافي ليست كثيرة، يمكننا أن نتشارك على شراء بعض الخلايا الشمسية لحل مشكلة الإنارة، كذلك يمكن أن نشتري مولدة كهرباء، وأظن أن كثيراً من أصحاب المحال سيفعلون الأمر ذاته، بس لو يفتحولنا الطريق».

«اجت الآثار»

في أنحاء متناثرة من الأسواق المتشعبة تدور عمليات ترميم وإصلاح يتصدى لها أصحاب المحال، أكثر ما عاينته «الأخبار» نشاطاً من بينها، كان تلك الدائرة في خان الجمرك الشهير. مع دخولنا الخان انطلق صوت فتى مراهق ليخاطب الآخرين (محذراً ربّما) بالقول: «إجت الآثار» تبعاً لما أوحت له به هيئتنا. في زاوية من الخان الكبير تكوّمت حجارةٌ يستخدمها البنّاؤون الذن يعملون على إصلاح ثلاثة محال، نلقي التحية ونسأل عمّا يقومون به، فيجيب شخص بدا أنّه المشرف بتوجس: «عم نصلح كم محل، وبدنا نلبس واجهة الخان حجر». نسأله إن كانوا يقومون بذلك بتكليف من أصحاب المحال، فيرد بالإيجاب، ويحرص على التواري سريعاً قبل أن نطرح مزيداً من الأسئلة. لم تكن تلك النقطة الوحيدة التي لمسنا فيها توجساً، في أول السوق من جهة باب أنطاكية التاريخي عشنا حالة مشابهة. كان بعض العمّال يستريحون أمام خمسة محال متجاورة تشهد أعمال ترميم أوضح عناوينها البيتون المسلّح (الناشز عن طبيعة المنطقة التاريخية). حين بدأنا تصوير المحال هرع أحدهم نحونا متسائلاً: «ليش عبتصور؟». وحين أجبنا بلهجة حازمة: «لأنو هاد شغلنا»، قال سريعاً: «أيوا إنتو من الآثار؟». تجاهلنا سؤاله وقلنا: «من أنتم وماذا تفعلون؟» فأجاب: «أنا صاحب المحل، عم نرمم، ومعنا رخصة نظاميّة». طلبنا الاطلاع على الرخصة فمد يده إلى جيبه متظاهراً بالبحث عنها بارتباك، وحرص في خلال البحث على إظهار رزمة من الأوراق الماليّة، وهو يقول: «كني نسيتها بالبيت، تفضلوا تفضلوا ارتاحوا واشربوا شاي».

الإسمنت يغزو السور التاريخي

لا يقتصر غزو الإسمنت المسلح على الأزقة الداخلية التي لا تمكن مشاهدتها إلا لقاصدها. ثمة حضور واضح له في المحيط الخارجي لباب أنطاكية، وتحديداً بمحاذاة السور التاريخي حيث تدور عمليات «إصلاح وترميم». في ما مضى كانت المنطقة تضم متاجر ومستودعات معظمها متخصص ببيع السيراميك، وكانت الفكرة السائدة أنّ مصيرها الإزالة لأنها تشكل تعديات على السور. قبل احتفالية «حلب عاصمة الثقافة الإسلاميّة» (عام 2006) أصدرت المحافظة قرار الإزالة بالفعل. لم يستسلم التجّار رغم فشل محاولاتهم لمنع صدور القرار، وأفلحوا في استصدار تعليمات من العاصمة بإرجاء التنفيذ. وسرت حينها معلومات عن أن التجار شكلوا وفداً زار رئاسة الوزراء وعاد ظافراً. اليوم، يبدو أنّ هذه التعديات تخوض سباقاً مع الوقت بغية إعادة «إصلاحها» والتحول إلى أمر واقع يواصل حجب السور التاريخي للمدينة القديمة، نسأل أنفسنا: هل تكون المخالفات أوّل ما يعاد إعماره في حلب؟




كنيسة الشيباني: سجن تحت الأرض

حجم الدمار في مبنى كنيسة الشيباني التاريخي ليس كبيراً، لكنّ الفوضى عارمة. في باحته الخلفيّة بقايا سيارة محترقة، لوحة خزفية مهشّمة على طاولة خشبيّة بديعة، ومن حوله دمار متفاوت الحجم. داخل المبنى تمكن مشاهدة بقايا الأنشطة الفنية التي كان المبنى يحتضنها قبل الحرب. في السنين الخوالي شهد المبنى معارض فنية وأمسيات موسيقيّة وتظاهرات سنوية عدة كان من أشهرها «ملتقى فنانات من العالم». وإزاء ذلك لا يبدو غريباً تناثر الكتب والكتيّبات والمطويات وبقايا اللوحات في أرجائه، وقد اختلطت ببعض الكتيبات والمنشورات الحديثة المتعلقة بـ«الإعلام الثوري». الغريب هو ما عاينته «الأخبار» في أقبية المبنى التي يبدو أن أحداً لم يدخلها منذ غادرها المسلحون على عجل. ولا يحتاج الأمر إلى جهد لاكتشاف أن الأقبية كانت قد حولت إلى سجن كبير، تُرجّح المؤشراتُ أنه كان تابعاً لـ«جبهة النصرة». زنازين فرديّة لا تزيد مساحة أكبرها على متر مربع واحد، أخرى كبيرة جماعيّة ما زالت البطانيات على أرضيتها وبعض الغسيل على حبال مدّها السجناء بين الجدران الرطبة. على الجدران خط بعض السجناء السابقين عبارات مختلفة، من بينها آيات قرآنية، وجملٌ عن الصبر والمعاناة، فيما قام أحدهم برسم لوحات متوسطة الجمال في إحدى الزوايا، وفوق معظم الجدران نُحتت بأداة صلبة جداول يعد عليها السجناء أيامهم.