كشفت إسرائيل، عبر صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، أحد أهم «الأسرار» الأمنية التي احتفظت بها طوال خمسين سنة ماضية، في ما يتعلق بواقع أفعالها ونياتها العدائية، عشية حرب عام 1967 وخلالها: التفكير في إلقاء قنبلة نووية على الأراضي المصرية.«الكشف» المشار إليه في الصحيفة الأميركية، ينشر ضمن سلسلة وثائق حول الحرب وما سبقها وما تبعها، ضمن برنامج «دراسات التاريخ الدولي عن انتشار الأسلحة النووية»، التابع لمعهد «وودرو ويلسون» في واشنطن، بدءاً من الأسبوع المقبل.

«إفراج» إسرائيل عن هذه «المعلومة» التي صنّفت «سرية جداً» حتى الأمس القريب، يحمل دلالات تتجاوز الكشف عن حادثة تاريخية، لتلامس مدلولاتها وخطة الكشف عنها واقع إسرائيل الحالي والتهديدات التي تواجهها، التي ترقى، بحسب التعبير والإقرار الإسرائيليين، إلى التهديد الوجودي، ربطاً بقدرات أعداء تل أبيب وتوجهاتهم، رغم كل بيئة الأنظمة العربية الحاضنة لإسرائيل، والمتحالفة معها.
يتبيّن من المتابعة والتعليقات العبرية على الوثيقة المنشورة في «نيويورك تايمز»، وإعادة نشرها بطبيعة الحال في الإعلام العبري، أن الكشف عن «التفكير» في إلقاء القنبلة النووية عشية حرب 1967، «مُهدى» من المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إلى المعهد الأميركي. المعنى، أنها معدّة ومدروسة ومنسّقة بصورة مسبقة، مع الإدراك بأن مخاطر ومحاذير نشر «معلومة» كهذه لا تتجاوز المنافع المتأتية منها، وإلا ما كانت لتبصر النور، تماماً كما هو الواقع والمنع منذ خمسين عاماً.
حتى أمس، كانت إسرائيل تلاحق وتحاسب وتقاضي أيّ مواطن إسرائيلي، بما يشمل الإعلاميين والمسؤولين السابقين، الأمنيين والسياسيين، ممّن «يتجرّأ» على نشر معلومات حول نياتها العدائية النووية تجاه العرب، سواء في ما يتعلق بحرب عام 1967 أو بحرب عام 1973. من ذلك، ملاحقة ومقاضاة العميد المتقاعد في الجيش الإسرائيلي يتسحاق يعقوب، الذي يقف وراء تحريك خطة إلقاء القنبلة النووية في سيناء، المفرج عن تفاصيلها حديثاً. تحدث الضابط الإسرائيلي بعد تقاعده، قبل 16 عاماً، مع صحيفة «يديعوت أحرونوت»، وأفشى لها «السر الكبير»، ما أدى إلى ملاحقته بتهمة «المخاطرة بأمن الدولة»، وكذلك بتهمة «كشف أسرار النووي الإسرائيلي أمام إعلامي». سيق يعقوب إلى المحاكمة لاحقاً، ومن ثم صدرت الإدانة بحقه.
ما الذي يدفع إسرائيل إلى تجاوز المحظورات والسياسات المتبعة، التي تقضي بملاحقة كل من يفشي السر النووي منذ عام 1967؟ بالإمكان تجاوز واقعية ومعقولية «معلومة» القنبلة النووية على سيناء المصرية من عدمهما، رداً على السؤال. سواء كان تلميح القنبلة، بمعنى الخيار الجدي أو لا، ففي الحالتين، دلالة الحديث و«الكشف» عنها، في هذه المرحلة تحديداً، لا تتغيّر. بل والأكثر من ذلك، إن لم يكن «الكشف» صحيحاً، وتم الدفع باتجاه تداوله الآن، فمن شأن ذلك أن يؤكد الدلالات الواردة هنا. بالطبع، لا يعدّ «الكشف» مجرد عمل مهني وحسب ربطاً بتداعياته، بل هو رسالة لأعداء إسرائيل، سواء اتخذ شكل الكشف أوالمعلومة التاريخية عبر وسيلة مهنية إعلامية أو أكاديمية. ولا جدال في أن الرسالة غير موجهة لإرعاب جهات وأنظمة لم تعد موجودة، وكذلك زعامات وصنّاع قرار لم يعودوا على قيد الحياة، فضلاً عن واقع سياسي، إقليمي ودولي، بات من الماضي. الهدف هو الواقع الحاضر ومكوّناته، وما يرتبط به مستقبلاً. معنى أنها مرتبطة بمستجدات وتطورات تشهدها المنطقة، والخوف ممّا يمكن أن يبنى عليها من مسارات وتطورات، من شأنها أن تهدد إسرائيل بمستوى وقوة غير مسبوقين.
ولا تخفي إسرائيل خشيتها من الانتصارات التي حقّقها محور المقاومة في المنطقة، ومنع المحور المقابل، بما يشمل إسرائيل، من تحقيق خططهم فيها وإنجاحها. في تركيز ذلك، تطورات الساحتين السورية والعراقية، وواقع الجمهورية الاسلامية في إيران، وتعاظم قدراتها ونفوذها. الخشية الإسرائيلية، التي لا تخفيها تل أبيب، هي من عدم اقتصار التهديد على واقع انتصار محور المقاومة في الساحتين السورية والعراقية، وأن يحمل اليوم الذي يلي مسار تهديد أعظم، مبني على هذه الانتصارات، باتجاه إسرائيل، ما يرفع التهديد الاستراتيجي المتأتي من الانتصار إلى تهديد وجودي لاحق، خاصة أن الراية المرفوعة هي: تحرير فلسطين من البحر إلى النهر.
من هنا، يتضح هدف رسالة الكشف عن «التفكير» في إلقاء قنبلة نووية على الأراضي المصرية، بمعنى أنه في حال تطورت التهديدات، وباتت هي عرضة لتهديد وجودي، فهي لن تتوانى عن استخدام «سلاح يوم الدين».
لكن مجرد أن يفكر صانع القرار الإسرائيلي انطلاقاً من هذه الخلفية، فهذا دليل كاشف عن الرؤية الإسرائيلية لحجم التطورات الحالية وإمكاناتها وما يمكن أن تصل إليه، سواء في العراق، أو بصورة تركيز أشمل، الساحة السورية.
على مستوى فاعلية الرسالة النووية الإسرائيلية وجدواها، فهي من الرسائل التي يفترض ــ ويمكن وربما ــ أن تجدي في بعض الأحيان مقابل جيوش في حالة زحف باتجاه فلسطين المحتلة. في حال كهذه، قد يجدي الردع النووي. لكن تعترض في واقعنا وواقع المواجهة مع إسرائيل مسألتان: أن إيران، الدولة الهدف من الرسالة، هي دولة نووية تقول إنها لا تريد إنتاج سلاح نووي، إلا أنها تملك القدرة الكاملة تكنولوجياً على تحقيق وحيازة هذا السلاح، بمدى زمني قياسي، وباعتراف الدول العظمى الست، في الاتفاق النووي نفسه، ما يعني، في المقابل، أن لإيران قدرة ردع نووية، وإن كانت لا تملك، حالياً، هذا السلاح. أما المسألة الثانية التي تعترض أيضاً الرسالة، فهي أن استراتيجية التحرير (فلسطين المحتلة) ترتكز في الأساس على الشعب الفلسطيني بدعم إقليمي. فهل توجّه إسرائيل من خلال رسالتها النووية أنها مستعدة وجاهزة لاستخدام هذا السلاح ضد الشعب الفلسطيني؟ أي تستخدم إسرائيل سلاحها النووي ضد نفسها، بالمعنى الجغرافي؟
عن فاعلية الرسالة في معادلة الردع، فهي غير ذات صلة. الدليل على ذلك أن إسرائيل كدولة نووية واقع معروف لدى خصومها وأعدائها، وأيضاً أصدقائها، وهو واقع غير مخفى منذ خمسينيات القرن الماضي، علماً بأنه لم يؤثر في استراتيجيات المواجهة اللاحقة، وكذلك في بلورة المعادلات التي نتجت من المقاومة في لبنان وغيرها من الساحات، ما يعني أيضاً أن الرسالة غير ذات صلة في هذا الإطار.