كانت كلمة "غذاء الأبطال" نوعاً من الإعلانات الرائجة في ثمانينيات القرن الماضي، كنت أحلم بذلك الغذاء الذي سيجعلني بطلاً، لم أكن أعرف أبداً ماهية الأبطال المقصودين، لكن باعتقادي كانوا أبطالاً مأخوذين من قصص الأبطال المصورة كسوبرمان وباتمان، كنت أعتقد كطفلٍ يقرأ الكوميكس بشكلٍ دائم ويشاهد الرسوم المتحركة التي تحكي عن أبطالٍ خارقين، أنني إذا ما أخذت هذا الغذاء سأصبح في لحظةٍ ما ذلك البطل الخارق الذي ينظر إليه الجميع، يحلمون بأن يكونوا مثله. وكبرتُ ووجدت أن الحياة أمرٌ مختلف، أن الأبطال الخارقين الذي نتحدّث بشكلٍ دائم عنهم يأخذون أشكالاً متعددة، لا يرتدون بزاتٍ ملونة، لا يرتدون ثياباً متوهجة، ليسوا دائماً شديدي الوسامة والغنى، بل إنهم بكل بساطة قد يكونون عاديين للغاية، حتى اللحظة التي "يحكّون" فيها. يجلس الشيخ خضر عدنان اليوم وحيداً في زنزانته، لكن قوته الخارقة لا تزال فيه، قوته الخارقة التي قاوم بها سجّانه الصهيوني أكثر من مرة، وانتصر. يجلس الشيخ المقاوم، الذي يعرف أن جسده قد يخونه في أي لحظةٍ اليوم بعد أكثر من 50 يوماً إضراباً عن الطعام، إضراباً لأجل الحرية، إضراباً لأجل كل ما يؤمن به، أمام عدو لا يعرف ولا يفهم إلا لغة القوة والضغط. يعرف الشيخ خضر عدنان تماماً أنه يخوض معركةً سينتصر بها بشكلٍ أو بآخر وبحسب كلماته الدقيقة: "سأنتصر مهما كان الأمر، إما سأخرج من هنا حياً مرفوع الرأس وإما شهيداً بإذن الله".
كل هذا اليقين لا يجعل الشيخ إلا بطلاً خارقاً بنظري، وبنظر كثيرين لا في الشعب الفلسطيني فحسب، بل في أنحاء العالم أجمع. فقبل سنين عدة وفي عام 1981 قام عشرة مقاومين من الجيش الجمهوري الإيرلندي بالإضراب عن الطعام وهم معتقلون لدى الاحتلال البريطاني لبلادهم. قاوم هؤلاء الأبطال بأجسادهم، كما يفعل الشيخ خضر اليوم، قاوموا، حتى استشهد بوبي ساندز وكان في السابعة والعشرين من عمره. يومها عرف الجميع تلك القصة، وأصبحت جزءاً من المخيال الشعبي، جزءاً من المقاومة الصلبة التي لا تنتهي.
في شهر الصيام، حيث يصوم عددٌ هائلٌ من الناس من جميع أنحاء العالم لأهدافٍ كثيرة، يصوم الشيخ خضر عدنان ضد الظلم. يصوم الرجل الذي اعتاد الصيام كل اثنين وخميس على عادة المتدينين المسلمين بهدوء وأناة. هي ليست المرة الأولى، وهي كذلك ليست أول جولةٍ يخوضها الرجل مع الصهاينة، فهو كان قد فاز بجولته السابقة حينما اعتقل من دون وجه حق. لكن هذه المرة قد تختلف كثيراً عن سابقاتها، فهو يدرك تماماً أن الإنهاك الذي يصيب جسده إثر مرات "الإضراب" يضعفه، لكن كل ذلك لا يضعف من عزيمته قيد أنملة. تئن الأجساد دائماً إذا ما امتلكتها نفوسٌ عظام، قد يسأل كثيرون كيف يستطيع الشيخ فعل ذلك؟ كيف فعل ذلك بوبي ساندز ورفاقه قبله؟ كيف فعلها كثيرون لا نعلم بشأنهم؟ إنها لحظة الحقيقة: هل طعامك أغلى من كرامتك؟ هل الجوع أقوى أم روحك؟ هل رغبتك في الانتصار أقوى من غرائزك البسيطة والأولية؟ إجابة أولئك الأبطال الحقيقيين الذين لا يرتدون وشاحاً، ولا يلبسون قناعاً: "مي ملح" تساوي: كرامة، هكذا هي الإجابة، هكذا هو الانتصار. يكون الماء والملح "كافياً" كي يصبح الشخص في خانة "الأبطال" في لحظة ما، لحظةٌ لا مجال فيها للتنازلات والتراجع، لحظةٌ لا مكان فيها إلا لأشخاص جبلوا من طينةٍ واحدة، مهما تنوعت أشكالهم، وأنواعهم، ودياناتهم وحتى توجهاتهم الفكرية، وهو ما يقودني إلى فكرة واحدة: إن هذا العدو واحد، مهما لوّن نفسه، وغيّر من شكله. هو عدوٌ واحد، فعدو ساندز هو عدو خضر عدنان، الظالم واحدٌ دائماً: الظالم واحد؛ لكن النصر حليف المقاومين دائماً، وهذا أمرٌ لا شك فيه البتة!