الموصل | يحبس دليلنا في الرحلة دمعته، وهو يعاين إرثاً أملَ أن يسلّمه إلى ولده. يقف «أبو علي» على ضفّة الحدث، يحاول فهم ما جرى هنا يوماً ما، فقد اعتاد الأربعيني قضاء طفولته لاهياً بين جدران قصر «النمرود»، حاله كحال العديدين هنا في الشمال العراقي.
هنا «النمرود» (30 كلم جنوبي الموصل) حيث نُثر التاريخ أمام ناظريك. تاريخٌ بات رخيصاً كحبات ترابٍ في صحراءٍ مقفرة.
من كبد السماء، تبعث الشمس لهيبها الحار، فتبلغ حرارة الطقس 40 درجة مئويّة. أما «ع الكاع» (الأرض) فبعضٌ من منتسبي القوى المسلّحة، قد وزّعت نقاط حراستهم في محيط التلّة المطلّة على نهر دجلة، حيث يقع القصر. يراقبون عمّال إحدى الشركات الأجنبية الموكلة اليها مهمة إعادة ترميم «النمرود»، وهم يستكملون تشييد سياج حديدي يقي ما تبقى من الآثار شرّ السرقة.
المدينة الآشورية، المعروفة بـ«كالح» أو «ككالخو»، والتي أُسّست في القرن الثالث عشر قبل الميلاد (منذ 3417 عاماً تقريباً)، تحتضن ألواح كتاباتٍ مسمارية. يُفسّرها «أبو علي» على أنها «مدائح» الآلهة أو الملك، وأخرى «لقوانين» وضعت لتنظّم العلاقة بين السلطة والشعب. كأن الديموقراطية والمدنيّة قد انطلقت من هنا، قبل أن تعيد الولايات المتحدة «نشرها» ــ حديثاً ــ في البلاد، وفق رؤيتها الخاصّة.
لوحاتٌ مسمارية متناثرة، و«ثورٌ مجنّحٌ» مهشّم (في الكتابات الآشورية تُسند مهمة حماية المدن، والقصور، ودور العبادة إلى هذا الهيكل). صنمٌ أخرس أعزل يعاين الشمس، وهي تغازل نهر دجلة، ولا يحرّك ساكناً.
ولأنه صنم، فهو «بدعة وشرك»، حُكم عليه بالتفجير. نغادر. يكبح «أبو علي» فرامله، يريد منّا أن نشبع من آثارٍ «ممكن ما عاد تشوفها... مين بيعرُف، فد تنظيم يخرج أكثر إرهاب من داعش... في العراق كلّش (كل شيءٍ) وارد».







في الموصل: «من قال داعش؟»

في الطريق إلى الموصل، بيوتٌ مهدّمةٌ مهجورة فقدها أهلها. لكنْ للعابرين رأيٌ آخر، يريدون للحياة أن تستمر، بكل أثقالها.
مخيّمات النازحين، الواقعة على طرفي الطريق، بدت كتلالٍ بيضاء متساوية. قممٌ بيضاء، وسكونٌ يخرقه صوت ريحٍ حارّة. يصف «أبو علي» المخيم كـ«سجن غوانتانامو، ماكو (لا يوجد) خروج، فقط دخول وتدقيق ع الإسم». السياج الشائك، الذي يحيط بالمخيّم، يُشعرك بأنّك أمام عدوٍّ عليك تجنّبه، وعليه أن يبقى داخل سجنه، ويدفع ثمن ما فعله «داعش» في عاصمة الشمال. «أكو (يوجد) قرار حكومي في الموضوع، والله وحده يعلم ما يدور في بالها».
على مدخل الموصل «عاصمة الخلافة» طريقٌ مستقيمٌ يقودك إلى «سيطرةٍ» (نقطة تفتيش) لقوات «الحشد الشعبي». حركة السير على طريق الموصل ــــ أربيل طبيعيةٌ جدّاً، «أكو ازدحام يم (عند) السيطرة. كلّش بسيط». نعبر «السيطرة» بعد انتظارٍ دام دقائقَ مرّت محمّلةً بخوفٍ ساكن: عودة «داعش» ومفخخاته كان هاجساً. الجادّة الرئيسية التي تخرق الموصل من شرقها إلى ضفّة دجلة، مقسّمة إلى أربعة طرق، اثنان منها للسيارات الخصوصية، والآخران للعمومية. السيارات الصفراء هي العمومية، أما الخصوصية فمعظمها أبيض. فالعراقيون ــ بأغلبهم ــ يقتنون سياراتٍ بيضاء اللون، كخيارٍ ألزمهم المناخ به، إلا أن بعض الاستثناءات تخرق نقاوة المشهد.
نجتاز حي كوجلي، أوّل أحياء الموصل. عُمّالٌ يشرعون في إعادة الإعمار، فيما آخرون يكنسون جوانب الطرقات، وباعةٌ نصبوا «أكشاكهم» لبيع النازحين العائدين إلى المدينة. نواصي الطرق لا تشي بأن الحرب قد وقعت هنا، فالاشتباكات جرت بين الأزقّة والشوارع الضيقة، ومن بيت إلى بيت.

«ننغمس» في الموصل أكثر. «داعش» لم يمرّ من هنا! ولم يكن هنا. كل الإشارات الدالّة على أن الموصل كانت «عاصمة الخلافة» قد أُزيلت. كأن كابوساً قد زال، وحُلماً بالحياة قد بدأ. من كان يظن ــ مثلاً ــ أن يصدح محلُّ أحد الموصليين بالأغاني؟ أو تخرج إحدى الموصليّات دون نقابٍ أو شادور، وتسمح للهواء بأن يلاعب شعرها؟ ساد ظنٌّ بأن «داعش» سيبقى ما بقي الدهر، وأن الموصل لن تعود إلى عباءة بغداد مجدّداً.
يُشعر الموصليون زائريهم بأنهم يعرفون بعضهم البعض. يوزّعون ابتساماتهم بحرفة، صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، كأنهم يريدون إزالة صورة قد رُسمت عنهم، بأنهم «البيئة الحاضنة لداعش». يلقون السلام، ويبادرون بالسؤال، والدعوة للانضمام إلى جلسة شاي مع بعض حبيبات الهيل. دعواتٌ كثيرة، وابتسامات تناشد حياةً غابت عن المدينة ثلاث سنوات.
غيابٌ عمره سنواتٌ ثلاث، لغير الموصليين، أما أهل المدينة فإن الحياة قد غابت عنهم منذ 2012، أي قبل إعلان زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي «خلافته».
«حدودٌ شرعية» طُبّقت على أهالي الموصل، وسط صمت المحافظ الذي لم يحرّك ساكناً، وقتلٌ طائفيٌّ على مرأى الجميع كما حدث في جامعة الموصل عام 2012، كان كفيلاً بأن يُفهم الموصليون أن مستقبلاً أسود ينتظرهم، وعليهم التأقلم معه. وحين السقوط، كان الجميع جاهزاً. أذعنوا للسيف خوفاً من خسارة الرقاب. يستذكر الموصليون ساحة النور، إحدى مستديرات الموصل، التي عُلّق على أعمدتها أكثر من 50 رأساً.
أنتج الخوف صمتاً مطبقاً إزاء سلوك المسلحين. يخال للمرء أن الموصليين قبلوا بهم. تسألهم، يجيبون «الدواعش مو زينين (سيئين)». من فرض تسريحات شعرٍ، إلى الالتزام باللباس «الشرعي» للرجال والنساء، وغيرها من الأمور ضاق منها صدر أهل المدينة، ولكن ما باليد حيلة، سوى انتظار الفرج. محمد صاحب محل أحذية ينقل معاناته، فهو لم يبع «بدلة عرس»، أما اليوم، فيعرض بضاعته «العصرية»، التي غابت عن المحل منذ ثلاث سنوات.
إرادة الحياة بادية هنا. الحرب جزءٌ من الذاكرة، والموصلي يحبّذ النسيان. وكأن «داعش» قد دُثر، رغم أن التنظيم لا يزال يرسل هداياه المفخخة. الناس غير آبهة بكل ذلك، فـ«الساحل الأيسر» قد عاد ينبضُ حياةً، و«الأيمن» بدأ يستعيد عافيته. على خطوط التماس ما يؤكّد ذلك، رجلٌ يكنس داره للعودة إليها، متحدياً البغدادي وتنظيمه، بابتسامةٍ.

القيارة: الأميركيون جبناء

بين «النمرود» ــ وما قبلها ــ والموصل حكايات قرىً وبلداتٍ ومدن، تخوض اليوم صراعاً آخر: «ما بعد داعش».
نقطة الانطلاق كانت من قرية تل عبطة (جنوبي غربي الموصل). اقتضى خطّ المسير التوجّه إلى القيارة، ومن هناك نتوجّه شرقاً ونعبر دجلة، لننطلق مجدّداً إلى النمرود، وبعض القرى، ونصل ــ في نهاية الأمر ــ إلى الموصل.
للوصول إلى القيارة، علينا أن نعبر صحراء واسعة، لا يحدّها في الأفق سوى جبال عاتية، تقع على يسارنا. إنها سلسلة جبال المحلبية «أكو (يوجد) داعش فيها، بس ما يشكلون خطر، الحشد هناك مرابط ومأمّن الطريق»، يقول دليلنا القائد في «الحشد الشعبي». مسافاتٌ لا يُستهان بها ــ بحسب المعيار اللبناني، لكن بالعراقي «كلّش قريب».
بلغت سرعة السيارة 120 كيلومتراً في الساعة، وأحياناً أكثر. فـ«شباب الجهد الهندسي في الحشد كسّروا البلاط (الزفت) لتأمينها، خوفاً من زرع داعش للعبوات في محيط الطريق». ما يؤنسك لون التراب وريحها، ومشهد مزارعي القمح يحصدون محاصيلهم، بطريقة شبه بدائية. بيوت طينية تفتقر كثيراً إلى مقوّمات الحياة «الطبيعية». تختصر ضحكة طفلة سمراء، وهي تؤشّر بعلامة النصر، حين ترى رتلاً عسكرياً، إرادة الحياة، بعدما خرجت تلك البقاع من حسابات الزمان والمكان، لحظة «وصول جنود الخليفة».

بات التاريخ في النمرود
كحبات ترابٍ في صحراء مقفرة

ساعةٌ وأكثر. «هسّه (الآن) نمر بجانب القاعدة (قاعدة القيارة الجويّة)»، والتي اتخذتها «قيادة العمليات المشتركة» مقرّاً مركزيّاً لقيادة عمليات «قادمون يا نينوى»، في تشرين الأوّل 2016. «كلش كبيرة»، يصفها القائد، «أكو أميركان هنا».
أكسبت القاعدة المدينة شهرةً واسعة، بعدما صارت محطة هبوطٍ وإقلاع للقادة العراقيين، من وإلى الموصل. لكن، للقاعدة أيضاً ميزةٌ أخرى، يرتاب منها البعض، وخصوصاً «كارهي أميركا». فهي تبعد عن الموصل حوالى 50 كيلومتراً، وتعتبر من أهم «نقاط ارتكاز الجيش الأميركي» في العراق، لما يحظى به موقعها من أهمية استراتيجية ــ عملياتية في شمال البلاد.
عند مرورنا بمحاذاة سور القاعدة، ساد حديث عن وجود الأميركيين في العراق. أرقامٌ تُرمى وتتصاعد، من المعلن 5000 جندي ومستشار (بحسب تصريح رئيس الحكومة حيدر العبادي)، وصولاً إلى 27000 (بحسب فصائل المقاومة العراقية)، وما بين الرقمين أرقامٌ أخرى قد تصيب أو تخيب.
وتلازم اسم المدينة، أيضاً، بآبارها النفطية، والتي شغلت العالم بأخبارها. فقد حجب دخان أسود رؤية دقيقة عن الأقمار الاصطناعية، بعدما استمر اشتعال تلك الآبار أكثر من 8 أشهر، إذ أضرم مسلحو «داعش» فيها النيران قبيل انسحابهم منها، مع بداية عمليات استعادة الموصل.
نواصل طريقنا. نجتاز سور القاعدة والحديث عن الأميركي لا يزال «نظريّاً»، إلى أن شقّ رتل «ضخم» طريقه بين السيارات. «هذا أميركي»، يؤشّر أحدنا ويضحك.








«سيدتي الجميلة»... مثيرة!


ظهر العاشر من شباط 2017، فجّر انتحاري نفسه وسط مطعم «سيدتي الجميلة»، في حي الزهور الموصليّ. عددٌ من الشهداء والجرحى سقطوا ذلك اليوم، أحدهم صاحب المطعم وعددٌ من أنسبائه.
تفجيرٌ كان بمثابة «الثأر» من مالكي المطعم الذين يتحاشون الإعلام، صوتاً وصورة، خوفاً من «ثأرٍ آخر». يعرف الموصليون «سيدتي الجميلة»، فهو أشهر مطاعم المدينة. ازدحام الزائرين ينذر بخوفٍ «دائم»، فــ«من يعلم متى الانفجار القادم؟».
حين سقطت الموصل، طلب جهاز «الحسبة»، التابع للتنظيم، من مالك المطعم استبدال الاسم. «الاسم مو زين (ليس لطيفاً)... بدّلَه، سوّي الإخلاص!». يستفهم صاحب المطعم عن الأمر، فكان الرد «الاسم يثير الشهوة... مثير... وهالشي حرام». استوعب الرجل «الفرمان»، واستبدل اسم مطعمه الذي لحق اسم المستديرة، التي باتت «مستديرة الإخلاص».
حَبَسَ الرجل «غصّة» تغيير الاسم. وحين دخلت القوات العراقية إلى الحي، أعاده إلى سابق عهده. «سيدتي الجميلة» تعود بمأكولاتٍ «غربية» بعد أن «حرّمها» التنظيم على الموصليون. سعادة الرجل لم تكتمل. أراد التنظيم الثأر من الرجل لخروجه عن «الطاعة»... فأرسل له مفخخةً أردته قتيلاً.




على أطراف الموصل: «البيشمركة تتمدّد»

يُقال في العراق إن «أكبر المستفيدين من سقوط الموصل هو رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني». يسعى جاهداً إلى تحقيق حلم «الأمة الكردية»: الدولة. على أبواب الموصل ترابط قوات «البيشمركة» على تخوم المدينة، حيث أقامت ساتراً ترابياً يبعد عن مدخل الموصل الشرقي، وتحديداً على طريق أربيل ــ الموصل، أقل من عشرين كيلومتراً.
يرفرف علم الإقليم على ذلك الساتر الفاصل بين الموصل وسهل نينوى الشرقي. هناك، تقدّمت «قوّات مسعود» وسيطرت على قرىً عدّة، لتعيد بخطوتها تلك رسم حدودٍ جديدة بين الإقليم والعراق.
أهالي تلك القرى جُلّهم من «الشبك» (أحد المكوّنات العراقية التي تقطن في سهل نينوى) باتوا اليوم «غرباء» عن دُورهم التي احتلّها مسلحو «البيشمركة»، عقب سقوط الموصل، وتمدّد «داعش». هوّةٌ واسعة بين مكوّنات الشمال العراقي أنتجها سقوط الموصل، وسمة «الغدر» تتقاذفها الألسن. كيف؟ «أكو مشروع لاستهدافنا»، عبارةٌ تسمعها من بغداد إلى الموصل، ومن الحلفاء والخصوم في آن واحد.




عبور «بحر» دجلة

الألوان هنا باهتة. كل شيءٍ يناشد الحياة كي تعود. زرعٌ يخجلُ من خضرته، وقطعانُ أغنامٍ هزيلة من الجوع: «من هنا مرّ داعش».
ابتسامات الناس الخجولة تخفي جروحاً لم تلتئم بعد. صورُ الشهداء وأسماؤهم كفيلةٌ لتعرّفك ذلك. صراع الإرادة يبدو جليّاً في عيون الجميع. شبح «داعش» يرابط على أطراف المدن والقرى المتناثرة على خواصر النهر. يسلب طعم الحياة والنوم. فالمغيب إشارة العودة إلى الدار والبقاء فيها، في انتظار الشمس الباهتة، لتخبرك أنّك ما زلت حيّاً.
وصلنا النهر. سنعبر جسراً عسكرياً لنصل إلى الضفّة الأخرى. يودّ الجسر لو يسقط في القعر ويريح عابريه الهاربين من «جحيمٍ إلى جحيم»، حسب وصف دليلنا. زحمة سيرٍ خانقة في الاتجاهين. الجميع يريد العودة إلى الموصل، إمّا إلى «الساحل الأيسر» (التسمية المحليّة لقاطع المدينة الشرقي) أو «الساحل الأيمن» (قاطع المدينة الغربي)، رغم أن حرباً ضروساً لا تزال مستمرة في الأخير. فبين خيامٍ تفتقر إلى مقوّمات الحياة، لا تقي حرّ صيفٍ أو برد شتاء، ودور مهدّمة أو محيطة بأرض المعركة، يركض العراقي باحثاً عن زاوية آمنة لينام طفله فيها.
على مهل نعبر دجلة، الذي يبلغ عرضه ــ عند تلك النقطة ــ حوالى 300 متر. مشهد الجسر «العائم» واهتزاز أوصاله يفرض حضور «مأساةٍ» ما. خوفٌ جديد، فيحاول أحد المرافقين كسر هيبة اللحظة، محاولاً إضحاكنا «إذا ما متنا من داعش منموت غرق!»... فيردّ أحد آخر «كلّش غميق»، رغم أن منسوب مياه النهر قد بدا «مقبولاً». نصل إلى الضفّة الأخرى. نضحك على «سلامتنا». نردّد جميعاً ــ لا إراديّاً ــ «من عُبرت ارتاحيت»، تلك العبارة التي باتت إحدى «أيقونات» الحرب ضد «داعش»، ونالت شهرةً واسعةً على شبكات التواصل الاجتماعي. وكأن الطفل حسام (صاحب المقولة) قد عرف جيّداً معنى «الراحة»...