حمص | تختلف زيارة مدينة حمص، بالتزامن مع شهر رمضان هذا العام، عن زيارتها خلال الأعوام السابقة. وفيما لم يمضِ على خروج المسلحين سوى عامين (ما عدا حي الوعر)، تبدو مقاومة الحزن والدمار جليّة على وجوه النساء والرجال المارين في الشوارع. استعدادات السوق الليلي الرمضاني جارية على قدمٍ وساق في ساعات النهار، قبل أن ينشغل الصائمون عن العمل في فترة ما بعد الظهيرة، ثم الإفطار، ليبدأ بعدها الناس بالتوافد ليلاً لزيارة السوق الرمضاني المؤقت، الذي تم افتتاحه بعد أيام على بدء شهر رمضان.
يشترك بعضهم أيضاً في «أسبوع التسوق»، الذي افتتحته محافظة حمص في مدينة المعارض في حي الوعر العائد إلى الحياة. 300 فعالية اقتصادية، بعضها من الوسط التجاري، تضافرت مع جهود حكومية، من أجل إحياء مدينة المعارض في الوعر، أسوةً بحمص القديمة، وبالتزامن مع محاولات يومية لإعادة الألق إلى الوسط التجاري.
يطل المبنى المسمّى «سوق الجاج» على الساحة وآثار السواد والخراب عالقة عليه. المنطقة كانت قبل أكثر من عامين خط تماس معرّضاً للقنص، أما اليوم فقد تحوّل السلاح وأرباب الحرب إلى مجرّد خيالات وأشباح يحاول الناس نسيانها. «ما عاد أهل الحي يخافون حتى من الأشباح، بعد كوابيس الحرب القاسية»، يقول أحد أصحاب المحال التجارية في السوق المسقوف. أعمال الترميم قائمة هناك، على الرغم من افتتاح أكثر من 15 محلاً تجارياً، وذلك فيما تضع محافظة حمص في حسبانها هدفاً يتمثّل في تأهيل 4 آلاف محل. ورش العمل لا تهدأ، بالاشتراك مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).

تهدف محافظة
حمص إلى تأهيل أربعة
آلاف محل

في منتصف شارع النوري، يظهر محل «كراميل السلام» لبيع السكاكر والكراميل، وقد رصّت بضاعته على الواجهة. لا يصدق أحد أن صاحب المحل المنتمي إلى عائلة «سلقيني» المشهورة بصناعة الكراميل والسكاكر استطاع تسديد 70% من ديونه وخسائر وقف إنتاجه، بعد عودته إلى العمل منذ عام 2015. «الفارق كبير بين رمضان الماضي والحالي. الرزق تحسن كثيراً»، يقول التاجر الحمصي. أولاد عمه استعاضوا عن ورشهم في السوق بمحال مستأجرة في الحي السكني، غير أن والده، الرجل المسنّ، أبى إلا أن يعود إلى السوق وفتح المحل، رغم الخراب وضعف الحركة التجارية في البداية. يضيف قائلاً: «استعدت معظم زبائني، وأقوم بتلبية (طلبيات) إلى مناطق سورية عدة، من بينها مرمريتا ومشتى الحلو. كما أني أورّد بضاعتي إلى محال حمص كافة، وبجميع أحيائها». يلحق بمحل العرض صالة داخلية استخدمت سابقاً كورشة تصنيع الكراميل، غير أن أضرار الآلات أوقفت الإنتاج، فاستعيض عنها باللجوء إلى المنطقة الصناعية، بانتظار تلبية وعود من المنظمة الأممية بالمساعدة في تفعيل خط إنتاج الكراميل.

«سوق... تحت سوق»

يتفرّع عن شارع النوري في السوق المسقوف سوقا الصاغة والمعرض. ويمكن ملاحظة عملية تأهيل السوق القديم بإعادة حجارته السوداء إلى مكانها بحسب رقمها. دقة العمّال في الترميم توضح الحرص على القيمة التاريخية للحجر، بعد فترة طويلة خسرت خلالها حمص ما خسرته من إرثها الحضاري والتاريخي. ويعي العمال وأهل المنطقة أن جامع نور الدين الكبير المطل على السوق المسقوف يضاهي جامع خالد بن الوليد في قيمته التاريخية، بل يسبقه في القدم. ويروي الأهالي كيف أحرق المسلحون مكتبة الجامع، ولحق الأذى بجدرانه بفعل العنف الماضي، ما أدى إلى محو القشرة الطينية للجدران القديمة وبروز حجارتها السوداء. ويجري استغلال الأمر خلال عملية الترميم، بإظهار الحجر الأسود كجزء من معالم المكان التاريخي. كما يُراعى الحفاظ على البوابات القوسية والقناطر، بهدف التركيز على هوية المدينة العتيقة. وبحسب محافظ حمص طلال البرازي، فقد أفضت الحرب ومخلفات العنف إلى اكتشاف «سوق تحت سوق»، حيث أدت الفجوات والحفر التي أحدثتها القذائف في الأرض، إلى اكتشاف آثار عمرها أكثر من 4 آلاف عام. البرازي يوضح أن تيجاناً أثرية لعواميد قديمة اكتشفت تحت السوق، وبعمق 8 أمتار، ويلفت في حديث إلى «الأخبار» إلى أن قذيفة كشفت أعمدة بازلتية سوداء داخل جدران الجامع النوري.

الحمصيون الساهرون!

هو رمضان الأول الذي يزور حمص بلا حرب ولا مسلحين. حالة من السكينة تلفّ أحياءها التي هجرها عدد كبير من أهلها، بفعل الدمار. إنها الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، والحمصيون يستعدون لتناول السحور. المدينة لا تنام. السوق المُحدّث للتسوق الليلي يضم 170 محلاً تجارياً. بائعو «العرق سوس» و»عروض» المولوية والعراضة الشامية يحوّلون السوق إلى مهرجان. نساء حمصيات من مختلف المشارب والطوائف، برفقة أطفالهن ورجالهن، يتفرجون على البضائع المعروضة. مضى عامان على انتهاء الحرب؛ يمكن تذكر ما قاله تاجر الكراميل الباسم من آل سلقيني: لن يصدق أحدٌ أن الوضع «جيد».