في ظل «الغزو الجديد»، سعت وزارة البيئة المصرية إلى «تبرئة» قناة السويس الجديدة من تهمة «توفير ممر للغزاة»، ذاكرة في بيان أنّ قناديل البحر التي غزت الساحل الشمالي هي من فصيلة «روبيليما نوماديكا... (وهي من) الأنواع المسجلة في البحر الأبيض المتوسط منذ عقود».
وأطال البيان الرسمي في الشرح والتبرير، إذ أضاف أنه «على مستوى إقليم البحر المتوسط، يجري العمل على دراسة هذه الظاهرة، حيث سُجِّل انتشار هذا النوع، خلال العام الحالي، في موسم الشتاء في لبنان وإسرائيل (فلسطين المحتلة) وقبرص»، مشيراً إلى أنه «برغم انتشار ذلك النوع (من القناديل) في البحر المتوسط، إلا أنه لم يُسجَّل أي انتشار كثيف له، سواء في البحر الأحمر أو خليج السويس».
ولم يتوقف البيان عند هذا الحد، بل أوضح أنّ «انتقال قناديل البحر على مستوى بحار العالم ومحيطاته ظاهرة طبيعية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتغيرات المناخية والتلوث والصيد الجائر للأسماك والسلاحف البحرية»، مقراً في الوقت نفسه بأنّ هذه الظاهرة «غير مسبوقة... وازداد امتدادها الجغرافي» باتجاه الساحل الشمالي الغربي، بعدما كانت تتركز، في السابق، على سواحل العريش وبورسعيد ودمياط.
في المقابل، فإنّ ما أوردته وزارة البيئة، تقابله تحذيرات عدّة إزاء المخاطر البيئية لـ«قناة السويس الجديدة»، وكانت قد بدأت تتعالى منذ إعلان المشروع، الذي دشّنه الرئيس عبد الفتاح السيسي، في شهر آب من عام 2015. واستندت التحذيرات البيئية حينها إلى أن كلّاً من البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط يشكلان نظاماً بيئياً متوازناً، له قوانينه الخاصة، وتراتبية السلسلة الغذائية للكائنات التي تعيش فيه، وأنّ شق قناة السويس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سبّب خللاً كبيراً في ذلك التوازن البيئي، وأن ذلك الخلل سيصبح أكثر خطورة في حال توسيع المجرى المائي.
والسبب الأساسي في التحذير من المخاطر البيئية المرتبطة بقناة السويس الجديدة، يتمثل في أن أعمال التوسيع، وفق ما يقول عدد من الخبراء، قللت من الأهمية التي كانت تمثلها البحيرات المرّة، كحاجز طبيعي أمام تدفق الكائنات المائية من البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط، بالنظر إلى شدّة ملوحتها. ولم يكن ردّ الفعل المصري على هذه التحذيرات مقنعاً بالدرجة الكافية بالنسبة إلى الخبراء. والجدير بالذكر أن وزارة البيئة المصرية تحدثت، حين أُقِرَّ المشروع الجديد، عن «خطة متكاملة لمختلف العوامل البيئية التي قد تؤثر بمشروع قناة السويس، وتهدف إلى الرصد البيئي المتكامل للمشروع، والاستزراع السمكي بالمنطقة، ومنع انتقال الكائنات البحرية، والتأثيرات في التربة والهواء». وأكدت حينها أن «هذه الخطة المتكاملة ستكون لها العديد من الفوائد عموماً، منها خفض كمية الانبعاثات من الغازات والأبخرة الصادرة عن السفن، والحد بنحو ملحوظ من الآثار البيئية لحركة الملاحة البحرية، وذلك من خلال تيسير حركة الملاحة أمام السفن وتقليص مدة انتظارها في القناة».

كانت وسائل الإعلام
المصرية تتعامل مع
التحذيرات على أنها مؤامرة

غير أنّ «الاتحاد العالمي لحماية البيئة» أكد، في تقرير نشر أخيراً، أن مشروع «قناة السويس الجديدة»، لم تسبقه أي دراسات علمية جدّية من قبل المنظمات البيئية المحايدة، برغم المطالبات والتحذيرات العدة، التي لم تجد آذاناً صاغية.
وعلى مستوى غير رسمي، كانت وسائل الإعلام المصرية تتعامل مع التحذيرات البيئية، بالحديث عن «مؤامرة إسرائيلية» لضرب مشروع «قناة السويس الجديدة»، و«دسائس» لضرب السياحة المصرية، وذلك لمجرّد أن خبيرة بيئية إسرائيلية تُدعى بيلا جليل، كانت من بين مجموعة تضم 18 خبيراً في مجال عالم البحار، انتقدوا حينها، بنحو جماعي، التأثيرات السلبية للمشروع في التوازن البيئي في البحر الأبيض المتوسط، وذلك في دراسة نشرتها دورية «بيولوجيكال اينفيجر».
وأشارت الدراسة المذكورة إلى أنّ «نحو 700 من الكائنات الحية غير الأصلية المتعددة الخلايا المعترف بها حاليا في البحر المتوسط، قد أُدخلَت بصورة كاملة عبر قناة السويس، منذ عام 1896»، مشيرة إلى أن القناة المصرية تُعدُّ «واحدة من أهم الآليات والمحاور لعمليات غزو الكائنات البحرية في العالم». وحذّر الخبراء من أنّ «الوضع سيتفاقم على نحو كبير، جراء ارتفاع درجة حرارة مياه البحر المتوسط في العقود المقبلة مع زيادة التغيرات المناخية»، مفسرين ذلك بأن «المياه الدافئة ستعطي الكائنات الحية التي غزت البحر المتوسط، آتية من البحر الأحمر، ميزة إيكولوجية في الوقت الذي تتكيف فيه تلك الأنواع الحية بالفعل على المناخ الساخن». ولفت الخبراء النظر إلى أن «الكائنات الحية غير الأصلية التي دخلت من طريق قناة السويس قد تكاثرت بقوة على امتداد الشام، من ليبيا إلى اليونان، بل وانتشر العديد منها في الجانب الغربي من البحر المتوسط»، معتبرين أنه «بالرغم من أن التجارة وحركة الشحن العالمية حيوية جداً للمجتمع، فإنّ الاتفاقات الدولية القائمة بالفعل أيضاً (تشدد على) الحاجة العاجلة للممارسات المستدامة التي تقلل من التأثيرات غير المرغوب فيها، والتداعيات البعيدة المدى».
وخلال العامين الماضيين، بدأ بالفعل، رصد أول مؤشرات هذا الخلل البيئي، إذ تحدثت وسائل إعلام مصرية عن ظهور كائنات غريبة عن البيئة المتوسطية قبالة السواحل الشمالية، حيث رُصد حوت قبالة مارينا، وحيتان، وأسماك قرش نافقة قبالة سواحل بورسعيد والإسكندرية، إلى جانب أنواع دخيلة من الأسماك، مثل سمك الأرنب السام وسمك الديك، قبل أن تتعالى الأصوات خلال اليومين الماضيين بعد «غزوة القناديل».
وبرغم ذلك، لا يبدو أن السلطات المصرية في طريقها إلى التعامل مع التحذيرات البيئية بالجدية اللازمة، ففي ردّها على أحد المعلّقين عبر صفحتها الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك»، اعتبرت وزارة البيئة المصرية أن ما يحكى في هذا السياق يأتي «لأغراض سياسية».
بدوره، قال مستشار وزير البيئة المصري للتنوّع البيولوجي مصطفى فودة، في اتصال مع «الأخبار»، إنّ «ما يثار بشأن قناديل البحر كلام مبالغ فيه»، مشيراً إلى أن من سمّاهم «جماعة إسرائيل والأمريكان»، يقومون بـ«استغلال العلم لتحقيق أغراض سياسية». ولفت إلى أن هذا النوع من القناديل «موجود باستمرار في البحر الأبيض المتوسط، ونحن نرصده منذ 40 عاماً على الأقل»، نافياً بذلك أي صلة بين تلك الظاهرة و«قناة السويس الجديدة»، التي لم تمض سوى ثلاثة أعوام على شقها.
وشدد فودة على أن «مياه قناة السويس هي نفسها الموجودة في البحيرات المرة وبحيرة التمساح، بمعدّل 95 في المئة، أو برقم أكثر دقة فإن الفارق بين المياه هو 4.5 في المئة، وذلك لكونها تتحرك شمالاً وجنوباً، ومن أعلى إلى أسفل، وبالعكس». وأشار إلى أن المشكلة الحقيقية في تكاثر قناديل البحر تكمن في ارتفاع درجة حرارة المياه، التي يُرجعها إلى «ظاهرة عالمية حوّلت البحر الأبيض المتوسط إلى بحر استوائي».
وسواء أكان رأي الخبراء العالميين أو وزارة البيئة المصرية صائباً أم خاطئاً، فإنّ ما رُصد من مؤشرات عدّة، خلال الفترة الماضية، يستدعي المبادرة إلى اتخاذ ما يلزم من إجراءات حمائية، أبعد من مجرّد توجيه النصائح للمواطنين للتعامل مع لسعات قناديل، والتمني «بقضاء وقت ممتع وآمن لجميع السادة المصطافين»، حسبما جاء في بيان الوزارة، أو حتى اقتراح اصطياد تلك الكائنات وتصديرها إلى دول شرق آسيا، حيث «تُعَدّ طبقاً شهياً» لدى الصينيين، وفق مسؤول مصري.
والواقع أن ثمة اقتراحات عدّة، يقدّمها الخبراء البيئيون، بينها ما هو مطبّق بالفعل في ممرات مائية أخرى، مثل قناة بنما، ولكن كل ذلك يبقى مرتبطاً بمدى الاستعداد للقبول بدراسات علمية محايدة، وعدم التعامل مع المعايير البيئية من خلال «نظرية المؤامرة» المستمرة.