قلّة من المارين في ساحات المدن والبلدت السورية، وخاصة ضمن الأحياء الشعبية، تستوقفهم طبيعة تصرفات الأطفال الذين يلعبون فيها، ليدركوا مدى خطورة ما يرتكب بحق المستقبل السوري. يمكنك أن تستعد نفسياً لمشاهدة الأطفال يؤدون لعبة «الجيش والمسلحين» في ساحة حي المتنزه في اللاذقية، بدل لعبة ما قبل الحرب «الشرطة والحرامية».
يمكن أيضاً أن ترى دور القيادة والبطولة يُسنَد إلى أحد الأولاد، الذي يناديه رفاقه بـ«النقيب عزيز»، وهو بدوره يخاطب طفلاً آخر عبر أداة يستخدمها كمكبّر صوت: «أبو قتادة... أنت محاصر. سلّم نفسك». يمكن الابتسام أمام هذا الفصل من اللعبة، ولو تخلل الابتسامة بعض المرارة، لكنك ستنسى كلمات الأغنية الهادئة: «عم يلعبو الولاد... تحت السما الزرقا». فالأطفال أيضاً متورطون في لعبة الحرب اليومية التي تنال كل من في البلاد. يحملون عصيّاً على أنها بنادق مفترضة. الخلفية الصوتية للعبة، أصوات يصدرونها على أنها إطلاق رصاص وتفجيرات، من دون أن يعتبر ضجيجهم هذا إزعاجاً، في زحمة عنف جميع أنواع الأسلحة المحيطة. سينام هؤلاء الأطفال ليلاً حالمين بالانتصار على المسلحين أو العكس، بحسب الأدوار المنوطة بكل منهم من خلال «اللعبة». وسيكبرون وتكبر معهم ألعابهم. لعلّ هذا ما جرى في البلاد تماماً، عبر أطفال الأمس.

اللهاث خلف لقمة العيش يشغل الناس عن توفير الرعاية النفسية لأطفالهم



وبينما كان ناشطون تربويون عالميون يدقون ناقوس الخطر، خشية من النزعة العدوانية لدى الأطفال المتأثرين بالألعاب الالكترونية والشخصيات الكرتونية العنيفة، جاءت الحرب السورية كتطبيق عملي وسريع لهذه المخاطر على أطفال البلاد. فالطفل هُنا لا يتعرض لخطر نفسي متمثل في تقليد العنف الذي يراه فقط، بل قد تدخل عوامل مؤثرة أخرى تتعلق بمواجهة الموت والظلم والحرمان والفقد، وما يترتب على كل هذه العوامل من نزعات نحو الانتقام. ولعل التربويين المتخوّفين، سابقاً، لم يتوقعوا أن تواجههم خلال مرحلة «الربيع العربي» ظاهرة «أشبال الخلافة»، التي أسّسها تنظيم «داعش» لتدريب أطفال على تنفيذ إعدامات ميدانية في الميادين العامة، بحق جنود ومدنيين، ليتفرّج العالم أجمع على أطفال أبرياء يقدمون على القتل من غير أن يرفّ لهم جفن، متهيّئين ليكونوا قنابل المستقبل.

أطفال «أربعينيون»... وبلا دعم نفسي

في ملامح الطفلة مرح مريم، مثلاً، يتجلى صمت الكبار المكابر عند الملمات. الطفلة التي تم أسرها من قبل مسلحي ريف اللاذقية عند اجتياح قرى ريف صلنفة قبل أعوام، ثم تحررت لاحقاً، شاهدت بأم عينها جثة جدها تسبح في الدماء، بالتزامن مع اقتيادها من قبل مختطفيها إلى حيث بقيت أشهراً طويلة مع والدتها وأشقائها. مختطفوها قتلوا والدها أيضاً، ما جعل ملامح الفتاة خالية من أي تعبير. لا يمكن استدراج الطفلة المحررة إلى اللعب أو الكلام أو الضحك، فإن تحدثت تتفوّه بعبارات يقولها الكبار عادةً، كمن «نضجت» قبل الأوان. الحرب جعلت من الطفلة البالغة 12 عاماً أربعينية جدّية، تعرف عن الموت واليتم والوحدة أكثر بكثير مما اختبره الكبار. ولعلّ عودة أمها وأشقائها من الاختطاف، مؤخراً، خففت من وحدتها ورمّمت بعض ما ضاع خلال فجوة العنف الماضية التي ضربت حياتها فغيّرتها إلى الأبد. الاهتمام بالدعم النفسي للفتاة جاء خجولاً، خلال تعاقب الحكومات بين عام 2015 واليوم، مع عدم اقتناع المسؤولين العارفين بأحوال شعبهم المنكوب بأن جميع المحررين بحاجة إلى الدعم النفسي وإعادة التأهيل، في حين يحتاج الأطفال إلى اهتمام مضاعف، لكونهم الأكثر تأثراً بالعنف الحاصل.
تجلّي العنف في كل ما يحيط بالطفل السوري يشي بالكثير من الإجرام المقبل، إن لم يُرفع مستوى الاستنفار والجاهزية القصوى من قبل وزارة التربية والمعنيين بشؤون الطفل، بالاشتراك مع المنظمات الدولية وبدعم المجتمع الدولي المتورط في الحرب السورية، والذي يتحمّل جزءاً من المسؤولية عن كوارث الحرب. ووفق إحصائيات اليونيسيف لعام 2016، فإن 1.7 مليون طفل سوري متسرب من المدرسة، ما يجعل هذا العدد الهائل من الأطفال بيئة خصبة للعنف والانحراف. وفي المدينة الرياضية في اللاذقية مجتمع حلبي صغير يمثّل الأحياء الشعبية التي تعرضت لنكبات الحرب، والتي عاد كثير من أبنائها إليها بعد انتهاء معركة الأحياء الشرقية. محمد، الصبي الحلبي المقيم مع والدته وشقيقتيه الصغيرتين، مثال حيّ عن آلام الطفولة وسط العنف المحيط. هو ذاته الطفل ذي الأعوام السبعة، الذي صفع إحدى متطوعات المجتمع الأهلي بعبارة ردّدها أهل اللاذقية طويلاً: «أبي مجاهد في حلب». وعلى إثر هذه العبارة ومثيلاتها من نازحين آخرين، بات التعاطي الاجتماعي مع «نازحي المدينة الرياضية» تحديداً، كما لو كانوا خلايا نائمة قد تنفجر في أيّ لحظة. وأمام فوضى توزيع المعونات على النازحين، كان محمد يهدّد المتطوعين بوالده المسلح في ريف حلب، حالماً بالعودة إلى حماية أبيه من ظلم الآخرين.
علاقة وديّة نشأت بين الصغير وأحد المتطوعين من أبناء المدينة، فصارا صديقين. لينتقل الصبي مع والدته وأبناء عمومته للإقامة في منزل مستأجر في إحدى قرى اللاذقية، وهو يعاني من صراعه الداخلي، حول هوية الأشخاص الذين سيقتلهم عندما يكبر ببندقية والده، بحسب تهديداته المتلاحقة لرفاق مسكنه السابق. الناس لدى الصغير مصنفون بين من كان طيباً معه، ومن عامله بشكل سيّئ. انخراط الطفل في العمل مع ابن عمه في تعلم مهنة نجارة الخشب، جعلت صوت العنف في داخله يخفت قليلاً، بالتزامن مع مشاركته لأصدقاء في مثل سنّه لعبته المفضّلة، «كرة القدم». وهو ما تأمل والدته أن يشغله عن كراهية المحيط، التي غلفت قلبه خلال إقامته السابقة، ولا سيما إذا عرف حقيقة مقتل والده في أحد أحياء حلب الشرقية قبل أشهر.