غزة | عشر سنوات على خروج محمد دحلان من قطاع غزة كانت كفيلة بزيادة خبرة الرجل السياسية، لكنها لم تغيّر طابعه الأمني، الذي بقي ملاصقاً لشخصيته، وهو عملياً مثّل صلب دوره في الإمارات (مستشار أمني) إلى جانب استثماراته (شركات خدمات أمنية وعسكرية). وبمجرد أن اكتملت بنود الاتفاق الأولى بين حركة «حماس» والقاهرة، بمتابعة شخصية من القيادي الفتحاوي المفصول، كان فتح المعبر لا يحتاج إلى الإجراءات اللوجستية فحسب، بل إلى ضمان مهم للمصريين، ألا وهو حضور دحلان الأمني.
هنا جاء دور «أصدقاء الماضي»، ممّن بقوا في غزة أو هربوا خارجها أيام سيطرة «حماس» على القطاع عسكرياً، وعلى هؤلاء ستقع مهمة «تسلّم الجانب الأمني غير المسلح» في معبر رفح بعد فتحه بصورة دائمة، أي الخدمات المتعلقة بختم جوازات السفر والتحقق من هويات المسافرين في كلا الاتجاهين، ضمن مرحلة أولى. وإلى جانبهم، ثمة 500 عسكري آخرين من «حماس» سيضطلعون بمهمة حماية المعبر الذي سينتهي الجانب المصري من ترميمه مع بداية أيلول المقبل، وستكون مهمتهم الحفاظ على الأمن وترتيب سير السفر، فيما يكون للحركة منسّقون يداومون مع «فريق دحلان» والمصريين كذلك.
وكان أحد الاقتراحات المصرية أن تتولى شركات أمن مدنية خاصة مسؤولية الأمن على المعبر، لكن حالياً سيعمل بهذه الآلية. وترافق التدريب «البدني» (لياقة جسدية واستعمال السلاح الشخصي)، إضافة إلى التدريب اللوجستي لمن تبقّى من العناصر الأمنيين لدحلان، مع سماح «حماس» لتيار دحلان في غزة بفتح مقار تنظيمية في المحافظات. وظهر القيادي سفيان أبو زايدة الذي يعمل ضمن هذا التيار، في كلمة أمام الفصائل الفلسطينية شمال غزة، وهو حدث لم تعتد التنظيمات السماح به كي لا تتّهم بالتلاعب على حبال التناقضات الداخلية في «فتح».
وتولى أبو زايدة ملف الحوار مع «حماس» في غزة خلفاً للنائب في المجلس التشريعي أشرف جمعة، المحسوب على دحلان، فيما عزت مصادر ذلك إلى خلافات داخلية في تيار دحلان، لكن مصادر أخرى نفت، وقالت إن الأخير أوكلت إليه «مهمات بعيداً عن الأضواء». ووفق الاتهامات الفتحاوية الداخلية، تشير الأصابع إلى أن أسامة الفرا (محافظ خانيونس السابق) هو الذي يترأس عمل أنصار دحلان في غزة، في ظل الحديث عن تهميش قيادات أخرى داخل تيارهم المشهور باسم «الإصلاحي».
على الجبهة المقابلة، تواصل «حماس» السير بخطى سريعة نحو انفتاح غزة على مصر (راجع العدد ٣٢٠٦ في ٢١ حزيران)، وذلك في وقت تكتمل فيه «مشهدية نادرة» في التاريخ السياسي الفلسطيني، هي مواصلة إنشاء منطقة عازلة على حدود القطاع وصلت حتى الآن إلى عمق مئة متر تقريباً في الأراضي الفلسطينية، ومن المقرر أن تشمل حدوداً تصل إلى 13 كلم تقريباً.
فللمرة الأولى منذ أحد عشر عاماً، وصلت وفود رسمية ممثلة للحكومة السابقة في غزة (اللجنة الإدارية الحالية التي شكلتها «حماس») إلى القاهرة، وذلك بطلب رسمي مصري، في خطوة تعبّر عن قبول الواقع المستجد في غزة، وهو ما قد يعقبه اعتراف سياسي إذا اكتمل تنفيذ بنود الاتفاق.
الوفد الذي بدأ أعماله أمس بعد عودة وفد حركي منذ أكثر من أسبوع، جاء هذه المرة برئاسة عضو المكتب السياسي في «حماس» روحي مشتهى، وبرفقة أعضاء ممثلين عن «اللجنة الإدارية». ووفق مصادر في «حماس»، ضمّ الوفد ممثلين عن قطاعات الصحة والأمن والاقتصاد والطاقة في الحكومة السابقة.
وسيطلب الأمنيون في الوفد الحصول على مستلزمات، ككاميرات مراقبة وأضواء وأسلاك شائكة، فيما يبحث بقية الأعضاء ملفات شراء الوقود والأدوية من مصر، فضلاً عن ملف الكهرباء، الذي كانت القاهرة قد تعهدت فيه بنقل الخطوط الرئيسية التي تزوّد بها غزة (تغطي 30 ميغاوات) إلى المنطقة الساحلية التي تبتعد نسبياً عن مناطق الاشتباك مع «داعش» في سيناء. وإلى جانب محاولة استشراف التنسيق المبكر لسفر المرضى، سيبحث الوفد قائمة بأنواع وأسعار البضائع التي يحتاج إليها القطاع من أجل استيرادها من مصر.
في المقابل، لا يخفى أن هذا التقارب الذي صارت تفاصيله تظهر علناً تباعاً يزعج السلطة الفلسطينية، والأخيرة سيقابل رئيسها محمود عباس نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، في القاهرة، قبيل توجهه لحضور القمة الأفريقية، فيما أرسل «وسطاء» محليين ودوليين للقاء «حماس» في غزة وتقديم حلول التفافية (آخر ذلك العرض الذي قدمه مبعوث الأمم المتحدة لعملية التسوية في المنطقة نيكولاي ملادينوف، خلال لقائه قبل أيام رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» إسماعيل هنية في غزة، وورد فيه استعداد الاتحاد الأوروبي لدفع تكلفة كهرباء غزة بدلاً من السلطة).
وطبقاً لإفادات متعددة من «فتح» و«حماس»، تتشابه الحال مع القاهرة التي أخبرت عباس أن العرض الوحيد حالياً هو قبول مبادرة «الرباعية العربية» التي طرحت قبل المؤتمر السابع لحركة «فتح» (في تشرين الثاني الماضي)، والقاضية بقبول إجراء مصالحة فتحاوية داخلية (مع دحلان تحديداً) ثم مصالحة مع «حماس».
أما عباس، فيشترط على «حماس» إنهاء العلاقة مع دحلان، وإعلان حلّ مبدئي للجنة الإدارية التي شكلتها، في مقابل أن يرسل وفداً من أعضاء «المركزية» لعقد اجتماع عاجل مع هنية وإعلان تشكيل حكومة وحدة وطنية على برنامج سياسي يشبه برنامج حكومة الوحدة التي شكلت عام 2006، وعلى أساس اتفاق مكة، ووفق اتفاق مبدئي سابق تم التوافق عليه في بيروت بين القيادي الفتحاوي عزام الأحمد والحمساوي موسى أبو مزروق قبل عدة أشهر برعاية لبنانية.
وتزامن كل ذلك مع تصريحات لقيادات فتحاوية سعت إلى ترطيب الأجواء مع «حماس»، ومنها حديث أمين سر «فتح» جبريل الرجوب، الذي يوصف بأنه عدو لدود لدحلان، حينما قال إن «حماس لن تضحّي بدماء شهدائها وتتصالح مع دحلان»، علماً بأن الرجوب سبق أن رفضت مصر استقباله، معلنة أنه «شخصية غير مرغوب فيها».
لكن قيادات في «حماس» قالت إن الحركة غير مستعدة لأن «تذهب في إطار التخلي عن دحلان... لأن ذلك كان شرطاً أولياً في المباحثات الثنائيه معه»، مستدركة أنه في حال تراجع عباس كلياً عن «إجراءاته العقابية، واعترف بشرعية الموظفين الذين عيّنتهم حماس منذ 2007، يمكن العمل على مصالحة معه، لكنها ستشمل أيضاً استيعاب دحلان في غزة».
إلى ذلك، من المقرر أن يلقي إسماعيل هنية خطاباً سياسياً «تاريخياًَ» غداً الأربعاء، يعلن فيه رسمياً توجهات الحركة في المرحلة المقبلة، وهو الحديث الرسمي الأول له منذ انتخابه رئيساً للمكتب السياسي.