عدن | مثلت محادثات جنيف الأخيرة محطة جديدة لإبراز الخلافات بين مكونات «الحراك الجنوبي»، ما عكس مجدداً التناقض في مواقفها إزاء مختلف الأحداث والشؤون التي تمس قضية الجنوب مسَّاً مباشراً أو غير مباشر. ترجع أسباب ذلك الاختلاف إلى مسألتين أساسيتين: أولاً، حقيقة أن الحراك السلمي الجنوبي الذي مثَّل حاملاً ميدانياً شعبياً ناجحاً للقضية الجنوبية منذ 2007، لم يستطع طوال أعوامه الثمانية الماضية أن ينتج حاملاً سياسياً موحداً تنظيمياً يمكنه ادّعاء التمثيل الشرعي لقضية شعب الجنوب وقيادته. فأقصى ما استطاع الحراك إنتاجه سياسياً هو الانقسام والتشتت إلى عدد من المكوِّنات السياسية الصغيرة في معظمها، بينما الوازن منها لا يكاد يُعَدُّ على أصابع اليد الواحدة.
ثانياً، إلى كون الانقسام الأساسي يتمثل في تيارين كبيرين يلتفُّ أولّهما حول محور «التحرير والاستقلال» (المتشدِّد)، والآخر حول محور «تقرير المصير» (المعتدل)، فإن الانشطار قد أدرك كلا التيارين، لكنه بلغ بأولّهما حد التشظي. فهذا الأخير اكتفى بكونه الأقرب إلى العاطفة الشعبية وبالتالي الأوسع جماهيرياً فلم يقدم رؤية سياسية واضحة لبلوغ ذلك التحرير والاستقلال بالتوازي مع النضال السلمي، وسرعان ما انقسم بين قيادتي الرئيس علي سالم البيض والزعيم حسن باعوم، ثم قيادات ومكونات أصغر، لينقسم بعد ذلك بين مؤيد لاستعادة دولة «اليمن الجنوبي» السابقة، ورافضٍ لهذا الأمر، مطالباً بالذهاب بالتحرير والاستقلال إلى بناء دولة الجنوب العربي غير اليمنية، ما يبرز إشكالية الهوية التي تعكسها قيادة عبد الرحمن الجفري وحزب «رابطة أبناء الجنوب العربي الحر» والمكونات المتحالفة معها. وفيما طالت المساعي إلى عقد «المؤتمر الجنوبي» الجامع لقوى «التحرير والاستقلال» المختلفة والعديدة، فإن جميعها باء بالفشل.
كان لافتاً اتفاق البيض والعطاس على تأييد
«عاصفة الحزم»

أما التيار الآخر (تقرير المصير)، الأقرب إلى العمل الدبلوماسي والذي تميز بتقديم رؤى سياسية بيِّنة وموثقة لحل قضية الجنوب، فقد مثله «مؤتمر القاهرة» 2011، بقيادة الرئيسين علي ناصر محمد وحيدر العطاس ومعهما وزير الخارجية (الجنوبي) السابق محمد علي أحمد. بيد أن الأخير عمد إلى التحضير، بعد عودته إلى عدن، لإنشاء مكوِّن جنوبي أوسع يوفق بين التيارين الدبلوماسي والشعبي، فأنتج في كانون الثاني من عام 2012، رؤية «المؤتمر الوطني لشعب الجنوب» الذي انفرد تقريباً بتمثيل «الحراك الجنوبي» في مؤتمر الحوار الوطني الشامل عام 2013 الذي قاطعه مؤتمر القاهرة نفسه، إلى جانب مقاطعة مكونات «التحرير والاستقلال» أيضاً.
بالنظر إلى تلك الوقائع، يمكن فهم التناقضات والتباينات كافة بين مواقف المكونات السياسية لـ«الحراك الجنوبي» من الحوار الوطني، ومن الحرب الرسمية على تنظيم «القاعدة» ومن تمدد حركة «أنصار الله» حتى محافظة عمران ثم صنعاء وغيرهما 2014، ومن الحرب الأهلية الدائرة منذ آذار ومن مؤتمر الرياض في أيارالماضي، فضلاً عن لقاء جنيف التشاوري الأخير. فبينما تضمَّن وفد الطرف المشارك من صنعاء ممثلاً عن «الحراك الجنوبي» من دون الوفد الآخر المشارك من الرياض، أدلى بعض قياديي المكونات الحراكية (عبد الحميد شكري وخالد الكثيري) بالتصريحات الآتية: «ننفي علاقتنا ومعنا المقاومة الجنوبية بأي ممثل باسم الحراك الجنوبي أو المقاومة الجنوبية في لقاء جنيف»، و«ننفي حضور أي تمثيل للحراك في جنيف»، فيما التزمت الأكثرية الصمت حيال المشاركة في تلك المحادثات.
لكن أحداً لا يمكنه نفي صلة غالب مطلق بـ«الحراك الجنوبي» وتمثيله، وهو المعيَّن في الحكومة الأخيرة وزير دولة ضمن حصة الحراك، كما كان أحد قياديي مكوِّن «المؤتمر الوطني لشعب الجنوب» المشارك في مؤتمر الحوار الوطني وأحد أعضاء مجموعة الرئيس ياسين مكاوي التي تمكن الرئيس الفار عبد ربه منصور هادي من شقها عن قيادة محمد علي أحمد، فخالفته عند انسحابه الشهير ومعظم من معه من مؤتمر الحوار اعتراضاً على تقسيم الجنوب إلى إقليمين (ضمن مشروع الفيدرالية اليمنية من 6 أقاليم الذي أصرّ عليه هادي). كذلك شارك مطلق في «حوار موفنبيك» الأخير بين القوى السياسية اليمنية برعاية المبعوث الدولي السابق جمال بن عمر، وكان من الذين استمروا في ذلك الحوار مخالفاً المكاوي الذي انسحب منه احتجاجاً على استقالة رئيس الجمهورية وهروبه إلى عدن قبل بدء الحرب السعودية.
ذلك ما نخلص إليه في تصريح القيادي في «مؤتمر شعب الجنوب»، فهمي السقاف الذي يقول: «ليس بإمكان أحد احتكار تمثيل الحراك الجنوبي أو نفيه عن أحد طالما لم يتوصل بعد إلى جسم قيادي موحَّد ومُعترَف به يضطلع بذلك». ويضيف: «إن النشأة السياسية المتشظية للحراك قد ولَّدت نزعة استئثارية لدى عديد من مكوناته وقياداته، نزعةً إقصائية ستظل سبباً للتباين غير البنَّاء في ما بينها بحيث يلغي كل منها الآخر وينفيه وفقاً للأهواء والنوازع النفعية غالباً وتجاذباتها المحلية والإقليمية أحياناً، بصرف النظر عن اتفاقها أو اختلافها في الرؤى والأهداف العامة والوسائل».
لعل في ذلك تفسيراً لكون الانقسام العابر لمكونات محوري «التشدد» و«الاعتدال» الحراكيَّين، ليس بشأن جنيف فحسب، بل حول الحرب المشتعلة في البلاد عموماً: بين صامتٍ مترقب؛ وبين مؤيد صارخ لدخول الحراك في «المقاومة الجنوبية» المشاركة في هذه الحرب بوصفها مفروضةً على الجنوب من قِبل الشمال، رغم أنها تقاتل في خندق واحد إلى جانب أنصار «شرعية» هادي وحزب «الإصلاح» وغيره من تنظيمات الإسلام السياسي والسعودية، وبين رافضٍ بهمسٍ لمشاركة الحراك فيها بوصفها حرباً لا تعني الجنوب ولا تخدم قضيته أيَّاً كان الطرف المنتصر فيها، على الرغم حتى من كون محافظاته الغربية وعاصمته عدن ساحة رئيسية لها.
فقد كان من اللافت اتفاق البيض، «الرئيس الشرعي للجنوب» بالنسبة إلى معظم قادة محور «التحرير والاستقلال»، مع الرئيس العطاس ـ أحد أبرز قادة المحور الآخر ـ في مباركة «عاصفة الحزم» وتأييد التدخل العسكري السعودي لإعادة هادي «الرئيس الشرعي لليمن»، وبالتالي تثبيت الوحدة بمشروع الأقاليم الستة المرفوض جنوبياً، وإن انفرد العطاس بحضور مؤتمر الرياض من بين كبار قادة الحراك في الخارج والداخل، باستثناء مستشار رئيس الجمهورية ياسين مكاوي رأس المجموعة التي باتت يطلق عليها البعض منذ عام 2013 اسم «حراك هادي»! وبقدر ما كان مثيراً للانتباه اختلاف موقف البيض المشار إليه عن موقف القطب الآخر لمحوره، الزعيم حسن باعوم، الذي آثر الصمت احترازاً إزاء ما يجري، كان مثيراً كذلك اختلاف موقف العطاس ذاك عن موقف القطبين الآخرين في محور تقرير المصير ذاته، ناصر ومحمد علي أحمد اللذين لم يكتفيا بالامتناع عن تأييد «عاصفة الحزم» السعودية، بل طالبا بوقفها ووقف الحرب عموماً إلى جانب انسحاب «أنصار الله» من الجنوب.
كان الأخيران هما الأقرب من بين قادة الجنوب وحراكه إلى تأييد لقاء جنيف بالنظر إلى اتساق موقفيهما من الحرب والتدخل السعودي، وترحيب ناصر المعلن بالدعوة الدولية الموجهة إليه سابقاً لحضور حوار جنيف الذي كان مزمعاً في 28 أيار الماضي، قبل تأجيله، ثم لاحقاً إفشاله عمداً بعد تحويله إلى «مشاورات جنيف»، لتعود القوى السياسية من المدينة السويسرية من دون التوصّل إلى حلٍّ ينهي العدوان.