«سنعود... رجعت حلب»، تصيح فاطمة ذات العشرين ربيعاً عبر الهاتف بلهجتها الحلبية المخففة. حلب الحاضرة أبداً في وجدان البلاد، دفع أهلها الفاتورة مرتين! هؤلاء الذين صمدوا طوال أشهر تلت اشتعال الشرارة الأولى للحرب يطعمون جائعي البلاد ومنكوبيها، ويسترون بمنتجات معاملهم برد الهاربين من وطأة الحرب، ومراقبين بحذر الموت القادم من جميع الجهات.
ومع سقوط أحيائها لاحقاً بأيدي المسلحين، بدأت الليرة السورية مسيرة الانهيار المتواصل.
معاملها دُمّرت وسُرقت، وخسرت الآلاف من عمالها وصناعاتها المتقنة، فيما جرّب أهلها مرارة النزوح والاغتراب في كل الأصقاع. غير أن المدينة لم تخسر أسرار سحرها، إذ بقيت روحها مع أرواح رجال قضوا على أسوار قلعتها، من أجل هذه اللحظات المؤثرة، ليلة أول من أمس.
اليوم، الكثير من الحلبيين المنتشرين في مدن عدة، يستعدّون للعودة المباشرة. «سينتهي النزوح»، تقول فاطمة. كلمتان تختصران معاناة الحرب، بالنسبة إلى جيل كبر في غفلة الموت المخيم على كل شيء. تستذكر صديقتها، ليال، التي عادت مع أهلها إلى حلب، فور استعادة الجيش حيّهم «صلاح الدين» في نيسان الماضي، على الرغم من عدم استطاعتهم السكن في منزلهم المدمر. تستعيد الفتاة لحظات وداعها المفجع لرفيقتها، مرددة كلام والد ليال عندما حاول بعض الجيران منعه من التوجه فوراً إلى حلب، فور إعلان الحيّ آمناً: «سأعود إلى بيتي ولو كان بلا سقف. سأنظف الركام وأنام على التراب الرطب، وسأبقى في حلب حتى أموت».
عاد الرجل الحلبي إلى حلب واستأجر شقة متواضعة فيها، متابعاً انتظار عودة كل شيء إلى سابق عهده، داخل حلب. في المدن الأخرى، جرّب الحلبيون العمل في كل شيء. ربة منزل لا تتقن أي عمل سوى رعاية أطفالها والاهتمام بمنزلها، تعمل خادمة في بيوت الأغنياء، وصاحب معمل أصبح عاملاً في جني المحاصيل الزراعية، بأجرة يومية، ومدرّس جامعي يعطي دروساً خصوصية في بيوت الطلاب، ما يعينه على تكاليف الحياة والإيجارات المرتفعة. كل هؤلاء، لم يناموا ليل أول من أمس، في سهرة ممزوجة بدموع الفرح، امتدت حتى الصباح.

فرحت أمّ سعيد
لتسليم ابن شقيقتها نفسه للجيش السوري

وكما جرت العادة، لا بد من أن ترافق أصوات الرصاص، الفرح. هذا الذي طمأنه ابنه المقاتل على إحدى الجبهات أن لألم الحرب نهاية، وأن حلب تعود، فخرج إلى شرفته معبّراً بالرصاص. تقول دلال، شقيقة فاطمة الكبرى: «هذه المرة الأولى التي لم نخف من الرصاص المنطلق في كل اتجاه فرحاً بعودة حلب. هذه المرة، الجنون شرّع الفرح بأي وسيلة كانت. أمي ظلت تصرخ طوال ساعة من الفرح وتقول: أود أن أركض إلى الشارع وأرقص. أود أن أمضي الآن إلى حلب سيراً على الأقدام». لا تستبعد الفتاة أن تعود عائلتها إلى حلب خلال الأيام القليلة المقبلة، كذلك عبّر جيرانها أيضاً وأصدقاؤها عن ضرورة العودة السريعة لتفقّد بيوتهم، التي هجروها خشية هجمات المسلحين المتتابعة.
في حين لم تستطع جارتها أم سعيد، منع فرحتها من تسليم ابن شقيقتها، المسلح، نفسه للجيش السوري، وقالت دامعة: «لا بأس. ذلك أفضل من أن يبقى الرجال متقاتلين، ونتشرد نحن بلا جدوى. الحرب بشعة، أي نهاية لها أفضل من استمرارها». عودة المرأة إلى منزلها مثار فرحة أكبر، من حزنها على ابن شقيقتها الذي قد يُسجن وأحلامه المكسورة بعد خروجه مهزوماً ومخذولاً من حلب القديمة، في مقابل هرب رفاقه إلى الريف. فيما يلتبس الأمر على زياد، العامل في مطعم، بعدما بدأ بترتيب محاولاته للسفر خارج البلاد. يقول الشاب دامعاً: «لا أدري إن كنت سأستمر في أحلامي عن السفر، وحلب تستجيب لأحلامنا جميعاً وتعود بالسلامة إلينا». تفاؤل الشاب خجول بعودة كل شيء كما كان. إنما يلفت إلى أن من مضى إلى بلدان اللجوء ليس سعيداً بالغربة والذل، ويضيف: «أعرف الكثير منهم، سيعود معظمهم. حلب محفورة فينا جميعاً».
الحلبيون سيعودون أيضاً، هكذا يفكر اللاذقيون، وقد تفرغ سوق العمل من نشاط أبناء المدينة الكبيرة. ولا شكّ سينتهي نزوح الحلبيين الذين يرافقهم الشعور الدائم، بأنهم ضيوف حلّوا على مدن ساحلية صغيرة تضيق بأهلها، وبطموحات كبيرة لتجار حلب الناشطين أينما كانوا. ترقب فاطمة على الشاشة الصغيرة خروج مواطنين من حلب الشرقية إلى الضوء أخيراً، بعد سنوات من «العتمة».
لم ينم الحلبيون أمس، ولا اللاذقيون، بل لعلّ السوريين جميعاً سهروا حتى الصباح، جامعين ما لديهم من أغانٍ وقدود حلبية، في محاولة لاسترجاع ما كان من ذكريات البلاد، ليُجمِع الجميع على سهرة ما، باتت قريبة جداً على أرض حلب، بعدما دمّر أحلام أهلها الصامدين حقد الحرب.