إنها حرب مزدوجة، تلك التي يشنّها آل سعود على اليمنيين. السعودية، المملكة الملحقة بركاب أميركا وبريطانيا، تقصف منذ عشرين شهراً، تدمّر وتذبح، من أعالي جبال صعدة حتى سواحل تعز. هي «سعودية» رديفة تشاركها المعركة. إنه الوجه الوهابي. شريك سلطان عرش نجد والحجاز له سهم في «غزوة» اليمن. الأخيرة تفتي، تحرّض، تكفّر. تصطنع، للشعب اليمني، مرجعيات دينية. ألم تفعل ذلك في ما سمّي «مؤتمر علماء اليمن» في الرياض؟
الحق أن حرب الوهابية، بما هي وهابية، ما انقطعت يوماً. لن نعود إلى غزوات الوهابيين لحضرموت ومختلف المناطق اليمنية... إلى عمليات النهب وهدم الأضرحة وذبح الشوافع والصوفية، وتكفيرهم، فالتاريخ القريب يزخر بالأمثلة على السعي الدؤوب من قبل أرباب الوهابية السعودية في الاختراق الثقافي لصفوف اليمنيين. المدارس المموّلة سعودياً توزعت من الشمال عند تخوم الحوثيين وفي معاقلهم، في عمران وصعدة، إلى مختلف المناطق جنوباً، حيث حَلم النظام الوهابي بتخلي الصوفيين والشوافع، فضلاً عن الزيود، عن طرقهم ومذاهبهم. كل الأموال الطائلة التي أنفقتها الرياض في سبيل نشر وهابيتها لم تعد عليها بأكثر من شرذمات متفرقة، هي، حتى يومنا هذا، حالات هجينة وغريبة عن الشعب اليمني المتسامح.
أخفق المشروع إذاً. أما المهزوم فلم ييأس. تضاعف الحقد على اليمنيين. الحرب مناسبة لترجمة الأحقاد. ولأن حجم الكراهية لا يقف عند حد، قصف النظام السعودي متعمّداً مقام الإمام الهادي وسط صعدة، أول أسابيع العدوان. وقبل العملية بساعات فقط، دمّر قبة ضريح حسين بدر الدين الحوثي، في منطقة مران.
المولد النبوي، إنه مناسبة أخرى للنزال مع كل المخالفين للوهابية. أيّ منسوب من الحقد والكراهية عليك أن تحمل لتكون مستعداً لقصف مكان الاحتفال بالمولد «البدعة» (وفق المعتقد الوهابي)، لمجرد أن الشارع شهد قبيل ساعات على جمع غفير من المدنيين، ممن يرى في الاحتفاء بالمناسبة أمراً راجحاً دينياً؟ قد يقول قائل إن ثمة مبالغة تفرضها أجواء الحرب في توصيف ضربات مماثلة. حسناً، هجوم مماثل نفذ السنة الماضية، على الاستاد الرياضي في صنعاء، عقب الاحتفال بالمناسبة نفسها.
أكثر من ذلك، بلغ الأمر درجة تشدد السلطات الموالية للسعودية في المحافظات المحتلة هذا العام، في منع تعطيل الدوائر الرسمية خلال ذكرى المولد، تحت طائلة المحاسبة القانونية. وأيقظت سلطات الفار عبد ربه هادي التفتيش الإداري (وهو جهاز غارق في سبات عميق منذ مدة) طالبة منه ملاحقة أي متمرد على القرار. ليس كل ما تقدم مهماً، ولا هو بمستغرب. المهم أن هناك من لم يستسلم. شاهَد اليمني العام الماضي قصف مكان الاحتفال بالمناسبة المغيظة للتكفيريين. العام الذي تلاه، قرر أن يخرج باحتفال هو الأضخم حضوراً والأكثر تنظيماً. لم يعد هذا الشعب يقاوم فقط، بل انتقل من طور المقاومة والتصدي، إلى مرحلة التحدي: عسكرياً وسياسياً وفكرياً.
إنها إذاً مناسبة لشكر اليمنيين. شكرهم مرتين: مرة على المقاومة العسكرية لهذا الوحش المنفلت، وثانيةً على المجابهة الفكرية وقول «لا» في وجه الفكر الرجعي الإلغائي. شعوب المنطقة بأسرها ممتنة لكم. أعينها عليكم. أنتم من تقاتلون عنا جميعاً. تقاتلون عن سلطنة عمان وبلاد الشام، وحتى مصر، والعراق، والمغرب العربي... ماذا لو قدّر للسعودية أن تحسم المعركة قبل سنتين؟ ماذا لو سنحت لها الفرصة أن تطوّع من بلادنا العربية أكثر؟ لكانت المنطقة مهددة بزمن أحادية الرجعية القاتمة، وكان يمنُكم الجميل على أعتاب أفغانستان أخرى، أو موصل ثانية، من يدري؟
شعوب المنطقة تراهن عليكم. لا بد أن تنتصروا. نقولها هنا في العلن، ونعلم يقيناً أن ثمة من يرددها معنا، وإن في الخفاء، في مصر وتونس وفلسطين والبحرين والسودان... كثيرون منا لا يرون في هذه الحرب، كما في كل حروب المنطقة، صراعاً دينياً أو مذهبياً. إنها معركة خيارات سياسية بامتياز. يستخدم الدين هنا، مثلما تستخدم الطائرات والصواريخ ومدافع الهاون. لكن مشكلتنا مع الوهابية السعودية هي في كونها وباءً تكفيرياً إلغائياً ذباحاً سفاكاً مجرماً. مشكلتنا مع آل سعود أنهم لا ضير عندهم في حال قرر جنود بريطانيا والولايات المتحدة إضاءة شجرة الميلاد في إحدى قواعدهم العسكرية في الخليج العربي، لكن أميراً لهم، في الوقت عينه، لا يتحمل مشهد مئات الآلاف في أجمل حواضرنا، صنعاء، تزدان باللون الأخضر احتفاءً بمناسبة تحرّم وهابيته الاحتفال بها.
ربما لو احتفلتم من غير ترداد «الصرخة» والهتاف ضد إسرائيل وأميركا، لما تجرؤوا عليكم. ولو أنكم أحييتم المولد في زمان تخضعون فيه للأميركيين، لكان يومئذ سفير السعودية في صنعاء أرسل أكبر باقة ورد متوافرة إلى منصة السبعين، التي قصفوها فجر أمس، تماماً مثلما فجّر تلامذتهم الدواعش قبلها بيوم في الكنيسة المصرية. أنتم بهذا التحدي تهزمونهم اليوم ثقافياً، وتفضحونهم، وتنتصرون للتنوع وللحرية بكل ألوانها في أوطاننا، بعدما هزمتموهم عسكرياً، وبعدما حرّم رجالكم عليهم استلاب هذا اليمن العظيم.