لم يستقصد العدو الإسرائيلي بعد اغتيال الشهيد القيادي في «كتائب عز الدين القسام»، والمسؤول عن «الوحدة الجوية» فيها، محمد الزواري (اسمه العسكري، مراد) في مدينة صفاقس التونسية، ترك المسدسات وكواتم الصوت في السيارة التي استأجرها عملاؤه لتنفيذ العملية، كما حاول بعض المعلقين في القنوات العبرية تصوير ذلك. إذاً، لم يترك فريق الاغتيالات الخارجية في جهاز «الموساد» هذه الدلائل لإيصال رسالة إلى المعنيّين في المقاومة والقول إن يده هي العليا وإن بإمكانه الوصول إلى أي شخص.
ما تناقلته وسائل الإعلام التونسية والإسرائيلية عن استقصاد ترك السلاح والأدلة الأخرى مجرد تحليل للحدث. فجهاز استخباري، بمهنية وبخبرة «الموساد» لا يتصرف هكذا، ولا يوجه رسائله بهذه الطريقة. ببساطة شديدة، إن الاغتيال عبر كواتم الصوت بحد ذاته رسالة سيفهمها العارفون بطبيعة عمل الشهيد الزواري.
وزارة الداخلية التونسية بدأت تحقيقاتها منذ اللحظة الأولى، والمعنيون بالصراع مع العدو، أجروا تحقيقاً أولياً كوّنوا فيه مشهداً لتفاصيل الاغتيال. وفق المعلومات التي حصلت عليها «الأخبار»، فإن الشهيد بعد عودته من تركيا إلى تونس (كانت زيارته لتركيا للتمويه على تنقلاته، وخاصة أن إقامته الرئيسية كانت في لبنان وتضمنت لقاءات مع قادة في حزب الله)، التقى صحافية مجرية من أصول تونسية، يرافقها رجلان أجنبيان من «الموساد» ادعيا أنهما صحافيان أيضاً (من غير الواضح حتى الآن هل كانت تعرف الصحافية أنهما إسرائيليان أو أنها تعرضت لخديعة استخبارية)، وذلك للحديث معه عن عمله في مجال الطيران.

أنشأ «الموساد»
شركة إنتاج وهمية لتجنيد عملاء له
في تونس

بعد اللقاء الأولي وتشخيص الرجلين وجهاً لوجه هدفهما وإكمالهما ملفه الأمني وتأكدهما من أنه المطلوب تصفيته، حددت الصحافية موعداً لتصوير المقابلة مع الشهيد، وكان ذلك الموعد هو الساعة الصفر لتنفيذ العملية.
في اليوم المحدد لإجراء المقابلة، ولدى خروجه من منزله للقاء الصحافية، التي تركت البلاد قبل ساعة من تنفيذ العملية (استطاعت السلطات التونسية إقناعها بالعودة بصفة شاهد وليس مشتبهاً فيها)، كان فريق «الموساد» ينتظر «مراد» بالقرب من بيته. وفق المعلومات، فإن منفذي عملية الاغتيال هما شخصان بملامح أجنبية (يبدو أنهما نفسهما من ادعيا أنهما صحافيان) يرافقهما فريق دعم من أفراد ذي ملامح عربية (اعتاد العدو الإسرائيلي عند تنفيذ أي عملية بحق أحد قادة المقاومة أن يكون التنفيذ مباشراً بيد عناصره وليس عبر عملائه).
في الساعة الصفر، أغلقت شاحنة (فان) الطريق على سيارة الشهيد عندما كان يهم بقيادتها. بعض جيرانه سمعوا جلبة ورأوا ما حدث، فاتصلوا بالشرطة وأخبروهم عن نوعية السيارة التي استقلها فريق الاغتيال الذي عرف أنه كُشف.
في حديث إلى «الأخبار»، قالت زوجة الشهيد إنها وأمه أول من سمع إطلاق النار، مضيفة: «عند خروجنا، وجدت زوجي في السيارة مستشهداً». بعد هرب فريق التنفيذ، استبدل سيارته وصعد في سيارة الإسناد التي كانت تنتظرهم لتقلّهم إلى المطار. ترك المنفذون مسدساتهم وكواتم الصوت في السيارة خوفاً من حواجز التفتيش وإلقاء الشرطة القبض عليهم. ووفق المعلومات، سافر فريق الاغتيال مباشرة بعد تنفيذ العملية إلى دولة عربية، قبل وجهتهم النهائية.
في تقدير المقاومة، كان فريق الاغتيال ينوي اختطاف الشهيد والتحقيق معه، ثم قتله خنقاً بالطريقة التي اغتيل فيها الشهيد القسامي محمد المبحوح في دبي عام 2010. وما زاد احتمالية هذه الفرضية هو العدد الكبير للسيارات المستأجرة ونوعية بعضها (استأجر الفريق شاحنة).
في غزة، شاهدت قيادة المقاومة المعنية بالتحقيق في اغتيال الشهيد تقرير القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي، الذي تم تصويره أمام منزل الزواري. تبين أن عدد الرصاصات التي اخترقت الجدار والمسافة الفارقة بينها توضح أن المهاجمين حاولوا اختطاف الزواري وأنه تعارك معهم، ما أجبرهم على اغتياله.
في السياق نفسه، قال وزير الداخلية التونسي، الهادي مجدوب، إن «بداية التخطيط لعملية اغتيال الزواري بدأت في حزيران الماضي». ووفق معلومات «الأخبار»، أنشأ «الموساد» شركة إنتاج وهمية في النمسا لإنتاج أفلام وثائقية، كما كشف المجدوب أن «الشركة وظفت الصحافية التي أجرت المقابلة والمتهمة بالمشاركة في تأمين المساعدة اللوجستية لمنفذي عملية الاغتيال في حزيران الماضي».
وكان «الموساد» ــ على ما يبدو ــ قد أوهم الصحافية بأنها ستنتج أفلاماً وثائقية على أن تباع لقناة ماليزية. وفي وقت لاحق، أخبرتها الشركة نيتها إنتاج فيلم وثائقي عن علوم الطيران في تونس، مقترحة مقابلة الشهيد محمد الزواري بصفته رمزاً وطنياً في مجال الطيران.
تزامن ذلك مع نشاط كان ينظمه «نادي الطيران»، الذي أسسه الشهيد، ويستعرض فيه بعض النماذج التي أنجزها الزواري، الذي كان قد أخبر صديقه كريم عبد السلام في وقت سابق عن بعض الشكوك والهواجس الأمنية لديه.
في اتصال مع «الأخبار»، قال عبد السلام، إن الزواري أخبره أنه منذ ستة أشهر (تاريخ التخطيط للعملية) تواصل معه مركز دراسات نمسوي، وعرض عليه توقيع عقد شراكة لتطوير بعض التقنيات. وأضاف الزواري لصديقه أنه عندما حاول التواصل مع المركز «اختفت جميع أرقامه وهواتفه، ما أثار ريبته».
ويوم أمس، أصدر القضاء التونسي مذكرات توقيف بحق ثلاثة مواطنين، بينهم الصحافية، للاشتباه في علاقتهم باغتيال الزواري. كما من المقرر أن تنشر «كتائب القسام» في الأيام المقبلة مقطعاً مرئياً للشهيد وهو يعمل في غزة.