«نحن جزء من مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ونملك أيضاً رؤيتنا الخاصة لمعالجة الوضع في اليمن؛ إننا نؤمن بالحوار وبالتنمية كأقصر سبيل لحل المشكلات مثل تلك التي في اليمن. عندما يجد الناس الأمل، سينسون التطرف، لكن للأسف وجدنا أنفسنا ملزمين بالانضمام للتحالف (العربي)». تلك كانت كلمات وزير الدفاع القطري، خالد بن محمد العطية، لقناة «تي آر تي وورلد» التركية، رداً على سؤال حول انضمام قطر إلى تحالف العدوان الذي تقوده السعودية على اليمن.
كلمات أراد من خلالها العطية، وبشكل رسمي، استكمال «مسرحية» التنصل من العدوان، بعدما جهد الإعلام القطري، خلال الأسابيع الماضية، في غسل يديه من دماء اليمنيين.
يوحي تصريح العطية بأن بلاده «أُرغمت» على دخول الحرب، وبأنه لو تُرك الخيار لها لآثرت سبيلاً آخر، لكن الموقف المحايد الذي اتخذته سلطنة عمان، العضو في مجلس التعاون، والتي لا تمتلك أدوات القوة والنفوذ المتوفرة لقطر، والتي تمارس دوراً مستقلاً «دون أن تتورط في المناكفة أو المؤامرة» على حد توصيف كتاب سعوديين، يؤكد أنه كان بإمكان الدوحة النأي بنفسها، على الأقل، عن «عاصفة الحزم». كذلك، يبعث التصريح على الاعتقاد بأن قطر داعية سلام في اليمن، وبأنها على اقتناع بأن «أشقاءها» الخليجيين أقحموا أنوفهم في ما لا يعنيهم، وأفسدوا أي إمكانية لحل النزاع في البلد الفقير بالطرق السلمية، بيد أن تعامل الدوحة مع الحرب، منذ اندلاعها في آذار 2015، وحتى لو سلمنا جدلاً بأنها أُجبرت على الانخراط فيها، يدحض كل تلك المحددات التي يتفاخر بها الوزير القطري بلهجة «قدسية» أضحت ملازمة لكل المسؤولين القطريين في هذه الأيام.

وجدت قطر في العدوان
على اليمن فرصة لتحقيق هدفين بأقل التكاليف

الحقيقة أن قطر وجدت في العدوان على اليمن فرصة لتحقيق هدفين اثنين بأقل التكاليف الممكنة: استنزاف السعودية بتشجيع دفعها إلى مستنقع صعب لن تعرف الخروج منه، وتعزيز موقع حلفاء الدوحة على الخارطة اليمنية استكمالاً لما كانت بدأته إمارة الغاز، منذ اندلاع «الربيع العربي»، في كل بلد ترتفع فيه لـ«الإخوان المسلمين» راية. هكذا، اقتصرت مشاركة الدوحة على 10 طائرات ضمن الأسراب الجوية المعادية لليمن، وعلى عدد محدود من الجنود قُتل منهم 4 فقط، واحد في تشرين الثاني 2015، وثلاثة في أيلول 2016. وحتى الدفعة المتشكلة من ألف جندي قطري، والتي أُعلن عن إرسالها إلى الأراضي اليمنية مطلع أيلول 2015 لمشاركة قوات «التحالف» في عملية «استعادة» صنعاء، لم يصل أي من أفرادها، بحسب المعلومات، إلى محافظة مأرب، بل اقتصر الأمر على عبورهم منفذ الوديعة الحدودي مع السعودية، قبل أن ينسحبوا مقفلين إلى ديارهم.
على خط مواز، كانت الدوحة متلذذة بتسعير أوار الحرب عبر منابرها، ضاحكة في سرها كلما انتقلت السعودية من شِراك إلى آخر، لكنها في الوقت نفسه، وعلى قاعدة اللعب على التناقضات التي تسم الاستراتيجية القطرية، ألقت بثقلها خلف الميليشيات الموالية لحزب «الإصلاح» (فرع الإخوان المسلمين في اليمن)، وشرّعت أبوابها أمام القيادات «الإخوانية» في السلطة «الشرعية» لتعزيز التنسيق السياسي والأمني معها، كما سخّرت وسائل إعلامها للترويج للفصائل المسلحة الموالية لـ«الإصلاح» حصراً، والوجوه العسكرية المحسوبة عليه أيضاً. لم تكن «الجزيرة»، على سبيل المثال لا الحصر، ترى في خارطة النيران اليمنية إلا محافظتين فقط: مأرب وتعز؛ مأرب بوصفها معقل «الإصلاحيين» الذين تمكنوا من السيطرة على أجزاء منها، وتعز التي حولتها «الجزيرة» إلى «ستالينغراد» إخوانية في العصر الحديث، متغافلة عن الدماء المسفوكة والملايين المحاصرين في صنعاء وصعدة والحديدة وحجة وغيرها.
ومع اتساع رقعة سيطرة الإمارات ونفوذها في جنوب اليمن، اتخذ الموقف القطري مساراً أكثر حدة ووضوحاً، مجلياً افتراق مصالح الدوحة عن مصالح الرياض وأبو ظبي. أمكن لمتابع المنابر القطرية، قبيل أسابيع قليلة من اندلاع الأزمة الخليجية (شهدت تلك الأسابيع تصعيداً في الخطوات الإماراتية الداعمة للانفصاليين في الجنوب)، أن يرصد امتعاضاً قطرياً متعاظماً من سعي الإمارات الدؤوب إلى ضرب «الإخوان» في الجنوب، وما تسميه قطر «الضعف والارتخاء» السعوديين إزاء ذلك. موقف ما يزال حاكماً في التعامل القطري مع الأزمة اليمنية، بينما أُضيفت إليه اعتبارات إنسانية كانت حتى وقت قريب غائبة بالمطلق.
فجأة، أضحى الكلام عن ضحايا تخلفهم غارات طيران تحالف العدوان حقيقياً، وأصبحت الضربات الجوية التي قتلت آلاف اليمنيين على مدار أشهر مدانة ومجرّمة. وفجأة أيضاً، ظهر الكوليرا في اليمن ليحصد أرواح الفقراء واحدة تلو الأخرى، ولتعترف «الإمبراطورية» الإعلامية القطرية بمسؤولية التحالف عن انتشاره. كذلك، وفجأة مرة ثالثة، فُتحت ملفات المرتزقة في هذا البلد، ليُنشر غسيل استقدام مقاتلين أجانب إلى الجبهات، بعدما عجز حلفاء السعودية والإمارات المحليون عن حسم المعركة. وبغتة مرة رابعة، خرج إلى النور الإقرار بأن الحرب باتت نوعاً من العبث «وبلا أفق»، وبأنها دخلت عامها الثالث دون أن تحقق أي هدف سياسي سوى «الدمار الذي ألحقته، والأمراض التي خلفتها». والأكثر جذباً للانتباه أن الدوحة باتت تجد في اليمن عضيداً رمزياً لها في مواجهة «الحصار» السعودي الإماراتي، على تفاهة المقارنة بين انقطاع أصابع الشوكولاته عن بضعة مواطنين قطريين لأسابيع معدودات، وبين انقطاع المواد الضرورية للحياة، من غذاء ودواء، عن 19 مليون يمني محاصرين منذ 112 أسبوعاً.
ما يزال الملف اليمني، بالنسبة إلى الدوحة، مادة للاستثمار. الفارق فقط أنه قبل اندلاع الأزمة الخليجية كان استثماراً لمنافسة الرياض وأبو ظبي، أما بعدها فهو استثمار لمواجهتهما. قد تجد حركة «أنصار الله» وحلفاؤها في ذلك فرصة لتهشيم تحالف العدوان، وإحداث خروقات في جدار الحصار الذي تفرض السعودية عليه تعتيماً خانقاً، تجلّت آخر فصوله قبل يومين في منع ثلاثة صحافيين دوليين من دخول اليمن. وقد يتطور التعامل مع تلك الفرصة المفترضة من تمني «المزيد من المواقف القطرية الشجاعة» (على حد تعبير رئيس اللجنة الثورية العليا، محمد علي الحوثي، تعليقاً على تصريحات وزير الدفاع القطري)، ومن إعادة فتح أبواب صنعاء أمام «الجزيرة»، ومن اتصالات محدودة مع شخصيات في «الإصلاح»، إلى ما هو أبعد وأعمق.
لكن تبقى الإشكالية الرئيسة في الرؤية التي تتبناها قطر لدورها في اليمن خصوصاً والمنطقة عموماً. رؤية لم تمنعها سابقاً من إظهار التعاطف مع «أنصار الله» (قبل ثورة الشباب عام 2011)، ومن ثم التحول إلى رأس حربة في المعركة ضد الحركة وحلفائها تحت شعار «مواجهة الانقلاب». فهل يصلح التسامح في ظل غياب أي مراجعة (معلنة) لدى الدوحة لفلسفة وجودها واستراتيجيتها؟ يبقى الجواب في رسم القوى المناوئة للعدوان في اليمن، وتقديراتها لما هو أصلح على المستوى الاستراتيجي.