غزة - الأخبار اثنان وعشرون عاماً مرّت على عملية «بيت ليد» المزدوجة التي نفذها كل من أنور سكر وصلاح شاكر، وهما من سكان قطاع غزة. في تلك العملية، تقرّر أن يفجر استشهادي ثانٍ نفسه بالجنود المقبلين لإسعاف زملائهم، فأدى ذلك إلى سقوط ستة وعشرين قتيلاً بين جنود العدو وإصابة ما يزيد على المئة منهم.

وكان سكر وشاكر قد تمكّنا من اجتياز الحواجز العسكرية حتى وصلا إلى مفترق «بيت ليد»، القريبة من مدينة أم خالد «المسماة إسرائيلياً نتانيا»، متنكرين بزي لجيش الاحتلال، فيما تخلف استشهادي ثالث لسبب تقني. تمكّن سكر بداية من تفجير نفسه وسط تجمع للجيش، ولحقه شاكر بانفجار آخر، لتغيّر «بيت ليد» المعادلات السياسية والعسكرية والأمنية للعدو.
العملية وقعت مطلع 1995، وجاءت رفضاً لاتفاقية أوسلو التي أنهت المقاومة المسلحة التي خاضتها «منظمة التحرير الفلسطينية». ووفق ما يروي عبد الله سكر، وهو شقيق أنور، يعود نجاح تلك العملية إلى كتمان هوية منفذيها وسرية التفاصيل، إذ لم تخرج دائرة العمل والتخطيط عن نطاق مهندس المتفجرات محمود الزطمة (استشهد عام 2003 في الانتفاضة الثانية)، والقائد العسكري للذراع العسكرية لحركة «الجهاد الإسلامي» آنذاك محمود الخواجا (استشهد بعدها بأشهر)، إلى جانب القياديين عمار الأعرج وأيمن الرزاينة (قتلتهما السلطة عام 1996).
والآن، تعود هذه العملية إلى الذاكرة من جديد بعد الاتصال الذي تلقته عائلة سكر من مركز حقوقي في القدس المحتلة يبلغهم بضرورة انتقال والدَي الاستشهادي إلى الأراضي المحتلة عام 1948 لمطابقة عينات دمهم مع جثمان ابنهم المدفون في «مقبرة أرقام».
وتزامن ذلك مع استدعاء الاحتلال عائلة الشهيدة هنادي جرادات (من مدينة جنين شمالي الضفة المحتلة) لإجراء الفحص نفسه تمهيداً لتسلّم رفاتها. وبالنسبة إلى جرادات (28 عاماً)، وهي من «الجهاد الإسلامي» أيضاً، فإنها نفّذت في تشرين الأول 2003 عملية استشهادية في مطعم في مدينة حيفا (شمالي فلسطين المحتلة) أدت إلى مقتل 19 إسرائيلياً وإصابة العشرات.
ويوجد في فلسطين المحتلة خمسة مقابر أرقام ــ على الأقل ــ تضم جثامين عشرات من الشهداء الفلسطينيين والعرب بجانب جثث أخرى في ثلاجات الموتى تحمل أرقاماً بلا أسماء، وكلها لها ملفات تحتفظ بها الجهات الأمنية الإسرائيلية تشمل معلومات خاصة بهم، وذلك في جزء من العقاب الجماعي للفلسطينيين. ومنذ زمن تستمر المطالبات بإغلاق هذا الملف، فضلاً عمّا شملته صفقات الأسرى، التي أجرتها المقاومتان الفلسطينية واللبنانية، من إخراج عدد من الجثامين.
في هذا السياق، يقول المحامي والناشط الحقوقي صلاح عبد العاطي، لـ«الأخبار»، إن هذه القضية «مرهونة منذ البداية باستجابة الاحتلال الذي دوماً يرى نفسه فوق القانون الدولي وقواعده»، مضيفاً أن «غياب المحاسبة والمقاطعة رسمياً من السلطة الفلسطينية ودول العالم أسهم في تنكر إسرائيل للقانون ولقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، كذلك فإنها رفضت دخول لجان تقصي حقائق ومسؤولي الأمم المتحدة إلى فلسطين للتحقيق في مثل هذه الجرائم».
بالعودة إلى عائلة سكر، فإن والدة أنور، التي كان وقع نبأ استشهاد ابنها عليها كالصاعقة وفق ما تصف، تشرح أن الأصعب على قلبها أنها لم تُلقِ نظرة أخيرة على جثمانه، كذلك لا مكان لقبر تتردد عليه لزيارته والدعاء له. ولمّا تلقت الاتصال، شعرت بأن جرحها القديم قد فُتح، لكنها في الوقت نفسه ترى أن ذلك ــ إن أُرجع الجثمان ــ سيسمح لها بنظرة الحب الأخيرة على خلاف الصورة المعلقة في صدر بيتها، حيث تمعن النظر فيها كل يوم. وتلك الصورة كما تقول، كان أنور قد طلب التقاطها مع إخوته ليلة تنفيذ العملية.
ولا يكتفي الاحتلال باحتجاز جثامين الشهداء، إذ يفرض عقوبات على أهالي الشهداء، فعائلة سكر قُصف منزلها مرتين في حربي 2008 و2014، كذلك فإنهم لا يزالون ممنوعين من السفر من خلال المعابر الإسرائيلية، وهو ما جعلهم في البداية قلقين من السفر لإجراء الفحوصات.
وخلال «انتفاضة القدس» الجارية حدث ضغط شعبي كبير أدى بسلطات الاحتلال إلى تسليم غالبية جثامين شهداء الهبّة الشعبية كي لا يزيد الغضب الشعبي، وليس آخرها تسليم جثمان الشهيد مهند أبو سفاقة من مدينة طولكرم بعد احتجازه لنحو شهر ونصف أخيراً، علماً بأنه استشهد في أيار الماضي في مدينة «نتانيا» متأثراً بإصابته برصاص قوات الشرطة الإسرائيلية خلال تنفيذه عملية طعن نتجت منها إصابة جندي بجروح طفيفة.
والآن، تنتظر عائلة سكر وجرادات بعد أخذ العينة من عائلة الشهيدين نتائج مطابقتها مع الحمض النووي الخاص بالشهيدين، ثم الموعدَ الذي يحدد فيه الاحتلال تسليم رفاتهما. لكنّ أيّاً من المسؤولين أو العائلتين لم يربط «الاتصال المفاجئ» بتأكيد أن تأتي هذه الخطوة كمقدمة لصفقة تبادل أسرى قادمة بين حركة «حماس» والاحتلال، أو مقابل الحصول على معلومات عن الجنود الإسرائيليين الأسرى في غزة، إذ تشرح عائلات الشهداء أن هذا الإجراء أتى بعد التماس قدمه «مركز القدس للمساعدة القانونية» إلى محكمة إسرائيلية.