لطالما اعتقدت أنني أستطيع السيطرة على خياراتي المتمثلة برفض التعاطي مع ما يسمى «معاهدة السلام» أو معاهدة وادي عربة، التي أبرمها النظام الأردني مع الكيان الصهيوني. الأمر يشبه المشاركة في لعبة فيديو اضطر فيها إلى القفز عن حواجز تجنباً للوقوع في المصائد الكثيرة والفخاخ المنصوبة في أماكن قد تبدو آمنة، فمهما احترفت واكتشفت أسرار وتقنيات وحتى تكتيكات اللعب، سيبقى هناك احتمالات متعددة للخسارة.
هذا ما حدث بالضبط مساء أول من أمس (18 أيلول) في الساحة الكبيرة البيضاوية التي هي أكبر ساحات المدينة الأثرية في جرش، حيث حوّلها منظمو «جمعية أصدقاء مهرجانات الأردن» إلى مسرح ضخم لاستقبال الفنان العالمي أندريا بوتشيلي (59 عاماً)، الذي هو من أهم الأصوات الأوبرالية والكلاسيكية... وواحد من أصدقاء «إسرائيل». نعم، لقد وقعت في مصيدة أحد أوجه التطبيع كأنني من أولئك الذين يفصلون الفن عن الموقف المبدئي والعدائي من العدو وأصدقائه، وهذا أمر يستدعي مني جلد ذاتي لسنوات.
على مدى الفترة الماضية، أقيمت في الساحة الأردنية مهرجانات غنائية وموسيقية وثقافية متعددة في كثافة واضحة للفعاليات خلال موسم الصيف، حتى أن المهتم بمثل هذه النشاطات كان سيحار في ترتيب أولوياته، خصوصاً أن الكلفة المادية لها كلمة الفصل في حسم خياراتنا، فيما تنعق غُربان الوضع اقتصادي المتردي جداً فوق رؤوسنا. من جهة أخرى، هناك فئة محصورة بالنخبة الثقافية المسيسة، كان لها أيضاً معاييرها الخاصة في ارتياد هذه الحفلات، إذ تتجنب ما هو مدعوم مباشرة من «الوكالة الأميركية للتنمية البشرية USAID».
حفلة بوتشيلي التي أعلنت منذ أيار المنصرم لم تستوقف أحداً؛ المعظم يعرفونه بنحو عابر من أعماله الكلاسيكية وأغاني البوب المشهورة له، خصوصاً تلك التي يؤديها مع مغنين معروفين آخرين. التراجيديا في مسيرة حياته وفقدانه بصره ونجاحه اللافت كانت كلها كفيلة بخلق نوع من الألفة مع الرجل الذي يمثل حضور حفلة له أمراً قد لا يتكرر في حياة أناس عاديين من أمثالي يقطنون في هذه الزاوية من العالم.
اللوحات الإعلانية في الشوارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى تلك المعروضة في الصحف الورقية، لم تستطع جذب جمهور حقيقي لبوتشيلي، فهو لم يأتِ للعامة، بل جاء لعلية القوم من أمراء ووزراء وسفراء ورجال أعمال يمثلون حلقة ضيقة لا تعكس بأي حال من الأحوال الواقع الحقيقي لأهل الأردن. وحتى إن كنت قد حصلت على بطاقة مكّنتني من الجلوس في مقاعد الشخصيات المهمة، فأنا في الحقيقة لست منهم، وهذا كان هاجسي عند الوصول والدخول من البوابة المخصصة، ثم الجلوس في تلك المقاعد المتقدمة التي يفصلها عن مقاعد الدرجة الأولى وما يليها حاجز حديدي قصير، لكنه موجود.
أسعار التذاكر، التي راوحت بين 500 دينار أردني (700 دولار أميركي) لمقاعد الشخصيات المهمة، و100 دينار (140 دولاراً) لمقاعد الدرجة الثالثة حجة واهية لمن يريد القول إن هذا المهرجان يعزز الذائقة الفنية عند أهل المملكة الذين دخلوا أيلول مثقلين بمصاريف عيد الأضحى والعودة إلى المدارس والبدء بتحضيرات الشتاء، في حين أن الأنفاس محبوسة خوفاً من قانون الضريبة المعدل كما ورد في رسالة النيات من الحكومة إلى «صندوق النقد الدولي».
المقاعد في منطقة الشخصيات المهمة لم تكن ممتلئة رغم ظهورها محجوزة بالكامل على الموقع الإلكتروني لبيع التذاكر، وهذا يفنّد الأقاويل المتعلقة بسوق سوداء وصل سعر التذكرة فيها إلى ألف دينار (1400 دولار). ولكن من صاحب المصلحة في مثل هذه الشائعة؟ ألا يكفي السؤال عن المردود المادي من حفل بطاقاته تظهر مبيعة بالكامل لكنها ليست كذلك، بل فئتها الأغلى ثمناً الذي يشكل إيرادها ربحاً حقيقياً وُزِّعَت مجاناً على جهات وهيئات مختلفة! شخصياً، شعرت بأن ذلك رسائل غير مباشرة لمن لم يستطع الحضور بأن هناك من يعيش في الأردن ضمن الظروف نفسها، لكنه تمكن بالفعل من دفع مبلغ كهذا مقابل حضور حفل فخم كحفل بوتشيلي، وكأن الخلل في نجاح الأفراد أو فشلهم موضوع شخصي لا علاقة له بسياسة الإفقار والإدمان الحكومي للقروض الداخلية والخارجية.
إن افترضنا حسن النية، فلماذا تحديداً بوتشيلي، وهو من زار الكيان الصهيوني عدة مرات، بل صرّح بأنه «صديق لإسرائيل» ويرى زيارته لها من أكثر الزيارات التي أثارت إعجابه وأثّرت فيه، وذلك بسبب وجود الأجواء الدينية في كامل «الدولة» على حد قوله؟ هنا ستظهر لنا تلك الأسطوانة التي ما ملّت الحناجر الرسمية تكرارها، وهي الرسالة إلى الخارج (جمهور بوتشيلي في الحفل الأخير مثلاً) الكفيلة بتنشيط السياحة في المملكة، وخصوصاً أن بوتشيلي كان قد قصد منطقة المغطس، مكان معمودية السيد المسيح، وكأن هذه الزيارة بالفعل ستزيد عدد الحجاج المسيحيين والمهتمين بالمواقع الدينية حول العالم ليقصدوا الأردن!

كان بوتشيلي قد زار الكيان الصهيوني وصرّح بأنه «صديق لإسرائيل»


ألم يزر بابا الفاتيكان الحالي فرنسيس، والسابق البابا بندكتس السادس عشر، ومن قبله البابا يوحنا بولس الثاني، البقعة نفسها، وهي زيارات بكل تأكيد عزّزت السياحة الدينية، ولكن ليس لدرجة أن يطرأ تحسن ملموس على إيرادات الموازنة المعتمدة بنسبة أكثر من 70% على الضرائب المفروضة على الشعب الذي لم يتمكن من الحضور؟ ثم عن أي جمهور وسياحة خارجية نتحدث ستنشطها حفلة في أحسن الأحوال كانت ستستقطب زائرين من دول مجاورة، وهنا سؤال آخر: هل فعلاً بوتشيلي سيجلب زوّاراً من سوريا أو العراق وهما من أكثر بقع العالم التهاباً، أم أن السعوديين بات لهم اهتمامات جديدة بالأوبرا والموسيقى الكلاسيكية، وهم من كانوا يؤيدون بنسبة كبيرة أفكار «داعش»؟ حتى الجمهور الإسرائيلي لن يكون مهتماً بالحضور، لأن الحفلة نفسها أقيمت عدة مرات في الأراضي المحتلة، كذلك فإنهم لن يغامروا بالقدوم إلى الأراضي الأردنية والسفارة ما زالت مغلقة بعد حادث إطلاق النار الأخير ومقتل أردنيين وفرار الجاني تحت حماية ديبلوماسية.
هذا كله يعيدنا إلى المنظمين ونياتهم، ودعونا ننطلق من اسمهم: أصدقاء مهرجانات الأردن، وهي جمعية غير حكومية، كانوا يبدون متحدثين عن أصدقاء من الجمهور المحلي، ولكن هذه السذاجة تلاشت بعد سماعي كلمتهم الافتتاحية التي شكرت فيها الجهات الداعمة والصديقة للجمعية، وهي شركات خاصة وبنوك مهتمة «بتنشيط السياحة». واللافت أيضاً شكر «USAID» رغم أن شعارها لم يظهر في قائمة الداعمين للحفل. إذاً، هؤلاء هم الأصدقاء المقصودون، واهتماماتهم من نوع معين وعلى مستوى معين، وتستهدف جمهور محدداً أيضاً. هنا يحضرني تعليق أحد الأصدقاء الذي أخبرته عن الحفل، فقال إنه صار بالإمكان التقرب من «الرجل الأبيض» ثقافياً، وهذا صحيح، مع أنني أرى أنه تزلّف أكثر منه تقرب.
لقد أقيم حفل لأحد أصدقاء «إسرائيل» في الأردن، ويبدو من الترف الاعتراض على هذا الأمر في ظل دولة كاملة تقيم علاقات مع الكيان، ولكن ما يثير الغيظ أكثر النخبةُ التي تعمل على مجابهة التطبيع في الأردن، إذ انصرفت إلى الحديث عن المخرج اللبناني الفرنسي زياد الدويري، متناسين الساحة التي هم فيها وحجم التطبيع وطبيعته، كأن المملكة ميؤوس منها أو أن العمل فيها «مناسباتي» لا أكثر، ويمكن وصفه بأنه كلاشيهات سطحية وديكورات سياسية لجهات حزبية ونقابية لا أستثني نفسي منها، عجزت حتى عن تعبئة الشعب ووقف الغرق في فخاخ رمال وادي عربة.