إن الذكرى السنوية لمجزرة بن طلحة فيها عظة وذكرى مهمة للجزائريين. لو كان هنالك اجتماع حول هذه الذكرى، فإنه أيضاً يشعل الجدل حول غياب «الوظيفة الرسمية للذاكرة» وحول المكانة التي يحتلها الحدث في الذاكرة الجمعية. إن مجزرة بن طلحة تشكل إحدى حلقات العشرية السوداء الأكثر بروزاً، وهي تبعث من جديد الفظائع التي ارتكبت ليلة 22-23 سبتمبر/ أيلول سنة 1997 في المدن المحيطة بالعاصمة، والتي كانت قد صوّتت بغالبيتها لصالح الجبهة الإسلامية للإنقاذ خلال انتخابات 1991.
قُتل في هذه المجزرة ما لا يقل عن 400 شخص في ظروف مرعبة: أطفال تم ذبحهم، نساء حوامل تم بقر بطونهن وكبار في السن تم قطع رؤوسهم على أيدي الجماعات الإسلامية المسلحة. أعطى عدم تدخل الجيش الجزائري في تلك الليلة المصداقية للفرضية السائدة في بعض أوساط الرأي العام حول التورط السلبي للعسكر. منح العفو العام الذي أصدره بوتفليقة في شهر يناير/ كانون الثاني سنة 2000 لكل من ارتكب هذه الجرائم الفرصة ليستفيد من عدم الملاحقة القضائية. «من الجانب الرسمي، ليس هنالك ما يمكن توقعه... ولم يبق لسكان تلك المنطقة وللجزائريين سوى الذكرى عن تلك الليلة المرعبة!»، تقول صحيفة «الجزائر فوكوس» يوم 23 سبتمبر/أيلول الماضي متأسفةً. في التاريخ نفسه وفي مقابلة مع جريدة الوطن، شرحت الاختصاصية في علم النفس العيادي والصدمات النفسية، صابرينا قهار، أنه بالنسبة إلى الناجين من مجزرة بن طلحة «فإن الصدمة لم تزل موجودة وستبقى إلى الأبد (...) لم يعد يوجد أحد من الأطفال الذين تعرضوا للأحداث بشكل مباشر، لكن توجد الصدمة غير المباشرة، أي إن الأطفال قد يصابون بالصدمة من خلال سماعهم بالقصص التي يرويها آباؤهم أو غيرهم من الكبار الذين شهدوا الحدث». إذا كانت فرضية انتقال الصدمة من جيلٍ إلى آخر مقبولة في حال تم ذكرها لضحايا هذه المجازر وعائلاتهم، فإن من الواجب رفض الطابع الحتمي المزعوم لصدمة بن طلحة في سير عمل المنظومة النفسية الجماعية. إن سياق إحياء ذكرى هذه المجازر يجب أن يدعو القارئ إلى التساؤل حول الآثار الضارة للتحليلات النفسانية التي تعيد طابع المجتمع وسير عمل أفراده إلى حدث تاريخي صادم يتم اعتباره أصل جميع التحولات. منذ سنوات عدة، يلتزم جزء من الصحافة الجزائرية بوضع علم النفس في مركز المشروع الذي يسعى لتفسير سير عمل المجتمع الجزائري. سنة 2013، وفي مقال بعنوان «ضحايا مجزرة بن طلحة يموتون مرة ثانية»، انبرت هيئة تحرير «الجزائر فوكوس» لتقول بطريقة مذهلة «إنّ المرض الأكثر انتشاراً لدى الجزائريين هو فقدان الذاكرة الذي يعتبر قناعاً يخفي شناعة الماضي. الماضي الذي يدركنا مع ذلك ولم تزل جروحه المفتوحة لمّا تلتئم. ولكن من هو في الجزائر الذي يريد حقاً أن تلتئم جراحه؟». من أجل النجاح في تجاوز صدمة بن طلحة التي تحفر عميقاً في عقلية جميع الجزائريين، يجب عليهم أن يتحولوا إلى فاقدي الذاكرة. إن فقدان الذكرة «مرض» يميّز إذن التطور النفسي لمجموع السكان. يبدو أيضاً أن كتّاب «الجزائر فوكوس» قد وضعوا نظرية عامة حول النفسية الجزائرية التي تأثرت حقاً وبشكل عميق بمجزرة بن طلحة. في مساهمة يعود تاريخها إلى سنة 2013، وتحت عنوان «منذ بن طلحة... أصبح جميع الجزائريين "بانك" غريبي الأطوار!» نشرت على ذات الموقع وتلتزم بالإحاطة وبتفسير عقلية «الجزائري»، يدرك القارئ أن الجزائري قد «أصبح غريب الأطوار منذ مجزرة بن طلحة، حتى لو كان كذلك قبل المجزرة بوقت قليل». إن أحداث بن طلحة، التي يتم وصفها في المقال بـ«الإبادة الجماعية»، قد شكلت انقطاعاً في الفكر الجماعي. «رداً على أسئلته (أي الجزائري) المشروعة، وعلى مطالبته بالحقيقة، تمت مواجهته بنقاشات إيديولوجية. لقد شكل ذلك انقطاعاً، تصدعاً، ونقطة اللاعودة في انعدام ثقة الشعب بحكامه، وهنا أدرك الجزائري طبيعته الغريبة الأطوار العميقة... لقد أصبح الجزائري أنانياً مثل البانك» (الشاذون أو غريبو الأطوار ــ من المترجم). أبعد من استعمال المصطلحات التي لا يتقنها كاتب المقال، حيث إنه يخلط بين «مجزرة» و«إبادة جماعية»، ومن أن استعمال كلمة «بانك» كفضاء مشترك يتهرب من التجربة التاريخية لظاهرة احتجاج اجتماعية ظهرت في الضواحي العمالية في مدينة لندن ولا علاقة لها بالتصرفات الأنانية التي يقوم الكاتب بوصفها، فإن المقال ينطوي على صور نمطية مبتذلة يجب أن تتم مواجهتها بالنقد الصارم.
إن هذا التعميم المسيء لكل الجزائريين حول حالتهم النفسية «الأنانية»، والأمر الجوهري المفترض حول «الطبيعة العميقة للجزائري» يفضحان الطابع العنصري لهذا النص. إن كاتب المقال بتبنّيه المقاربة الجامدة عقائدياً للصدمة الحتمية، يدّعي أنه وضع يده على آلية عمل الفكر الجماعي بحشده للأسباب الكامنة حصرياً في اللاوعي النفساني. يقول الكاتب «لا يتعلق الأمر كذلك بالدخول في الجدال الذي لا ينتهي حول «من يقتل من» ... ولأنني لا أملك وسائل الاستقصاء التي تسمح لي بتحديده (حالياً)، فسوف أكتفي بالوقائع إذن، وبتحليل ورطة الجزائري منذ ذلك التاريخ». لا جدوى إذن من البحث عن تفسيرات أكثر ارتباطاً بالموضوع من التفسير النفسي، تتطلب صياغتها الحد الأدنى من المعرفة بالسياق التاريخي وبالواقع الاجتماعي والسياسي، وهي التي شكلت الأصل في الانسداد الذي عرفته الجزائر في حقبة ما بعد الاستعمار. إن تحليل الحالات النفسية التي نتجت من الصدمة قاد الكاتب إلى إستنتاج نوع من الإستثنائية الجزائرية، والجزائري المتحول إلى «بانك» أناني، وإلى التساؤل «إن تمكن الشعب من استلام السلطة يوماً ما (لنكن طوباويين)، هل ستكون الجزائر أول بلد بانك في العالم؟». رغم أن هذه النزعة نحو الأنانية تنطبق على مجمل البلدان التي تفككت بناها الإجتماعية نتيجة الرأسمالية، وانحلت الروابط الإجتماعية وتحطم التضامن الجماعي فيها. للأسف، فإن هذا التحليل الذي يجمّد الجزائري ويحكم عليه في صور نمطية مستمدة من الإستشراق، لا يزال راسخاً ويظهر كلما تعلق الأمر بطرح السؤال حول الأصل التاريخي للأزمات التي يواجهها المجتمع الجزائري اليوم. إن إحياء الذكرى هو فرصة للذاكرة المناضلة المحرومة من التعبير عن طريق تأهيل مخططات الفكر الاستعماري. إن تفسير الينابيع العميقة للسلوك الفردي من دون وضع اليد على الإطار الجماعي التاريخي، والسياسي، والاقتصادي والاجتماعي الذي يندرج فيه هذا السلوك، يؤدي إلى جعل المجتمع الجزائري مقفلاً داخل عقلية تزرع المعتقدات اللاعقلانية: أي سوف يتحرك هذا المجتمع إما بالغريزة أو بالدين، أي مثالاً نموذجياً عن الفكر الذي يؤمن بالسحر والخرافات. إن هذا الخطاب النفسانوي الذي بني حول مجزرة بن طلحة، وهذا التفسير لحتمية الصدمة في الفكر الجماعي، يعيد تذكيرنا بالفرضية التي سادت سنوات 1990 حول الجزائريين «سجناء» ذاكرتهم. إن أعضاء «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» بإعادتهم تنشيط الصدمة الاستعمارية المدفونة في لا وعيهم وفي عجزهم عن ممارسة أشكال ديمقراطية من الاحتجاج، التجأوا إلى الجبال وأعادوا إنتاج سيناريو حرب التحرير الوطنية. يبدو أن من الحتمي اليوم إدارة الظهر لهذه القراءة الحتمية التبسيطية التي تجعل من الفرد اليوم نتاجاً صافياً لصدمات ماضيه. إن الأحداث التاريخية الثقيلة الوطأة، مثل استعمار شعبٍ ما، يكون لها مدىً بنيوي، وقد تشكّل الأساس الذي تقوم عليه شروط تكوّن البنى الاجتماعية. لعب الإرث الاستعماري دوراً في إنتاج خصائص المجتمع الجزائري ما بعد الاستعمار، لكن ادّعاء فهم النفسية الفردية للجزائريين وتعميم ذلك على النفسية الجماعية عن طريق ردّ منطق الفعل إلى حدث صادم هو أمر لا صلة له بالموضوع من أجل فهم الواقع الاجتماعي الجزائري اليوم.