في يومين متتاليين، وجدت مصر نفسها أمام سباقين دوليين لكل منهما طبيعة تختلف عن الآخر ومدى اهتمام عام متفاوت بفداحة ورسائل سياسية لها وقع وظلال.الأول، سباق التأهل إلى مونديال ٢٠١٨ في موسكو، والثاني سباق منظمة اليونيسكو لنيل منصب مديرها العام في باريس. لكل سباق قواعده وحساباته وشفراته الخاصة.
عندما حسم ــ مساء الأحد الماضي ــ المنتخب الوطني بطاقة التأهل إلي نهائيات كأس العالم لكرة القدم، سادت الميادين والشوارع والبيوت حالة استثنائية من الفرح العام.

كانت تلك رسالة لا تخطئ بأن المصريين في شوق بالغ إلى شيء من الفرح يخفف من وطأة الأزمات المستحكمة التي تكاد تخنق الأنفاس وتسد أي أمل في المستقبل.
لم يختلف مصري مع آخر في ذلك التوصيف ــ كأنه حقيقة مطلقة لا تقبل نقاشاً.
كان يمكن أن تنسب الانفجارات العاطفية التي عمّت المصريين إلى أن بلادهم غابت لثمانية وعشرين عاماً عن المسابقة الدولية الأكثر أهمية في كرة القدم، رغم نيلها الرقم الأكبر في البطولات القارية، أو إلى أنها حصدت بطاقة التأهل إلى المونديال في الثواني الأخيرة من المباراة مع الكونغو بعدما خيّم الصمت الحزين يأساً من الذهاب إلى موسكو.
هذا كله صحيح، لكنه لا يستوفي المشهد المصري وخلفياته الاجتماعية وعمق تفاعلاته.
الترجمة المباشرة لذلك الاعتقاد أن هناك ضيقاً اجتماعياً بلغ ذروته وانسداداً سياسياً لا يمكن تجنب عواقبه. الإقرار الجماعي من رئيس الدولة إلى أصغر مواطن بحاجة المصريين إلى الفرح هو إقرار آخر بأننا لسنا على الطريق الصحيح. والكلام عن أنهم يستحقونه يفتقر إلى صدقيته ما لم يرتبط بتصحيح أسباب الكآبة العامة.
الفرح ــ بطبيعته ــ فعل مؤقت، إذا لم يستند إلى حقائق تتبدد بأسرع ما يمكن فوراته العاطفية. التعبيرات الإنسانية الفضفاضة، مثل الفرح والسعادة والأمل، يمكن تأويلها على أوجه مختلفة بمقتضى المصالح المتضاربة.
ما هو صلب ــ بالحساب الأخير ــ مستوى الرضى العام على السياسات المتبعة ومدى اقتناع أغلبية المواطنين بأن هناك أملاً في نهاية النفق الطويل. بصياغة أخرى، فإن مثل هذا الأمل تعكسه سياسات وخيارات ورؤى تنتسب إلى عصرها في طلب الدولة الديموقراطية الحديثة وقيم العدالة الاجتماعية وشفافية القواعد التي يدار بها الشأن العام.
لم تكن تلك الرسالة الوحيدة على هامش التأهل إلى المونديال، فقد تجلّت رسالة ثانية بوحدة المشاعر العامة للمصريين بالداخل والخارج على السواء، وخاصة في العريش بشمال سيناء، التي تقع في قلب الحرب على الإرهاب ويئن أهلها من الطريقة التي يجري بها التعامل معهم ــ كما لو كانوا إرهابيين مفترضين حسب تفلتات إعلامية متكررة على شاشات الفضائيات.
المشهد الأكثر أهمية تظاهرهم بالأعلام المصرية أثناء فترات حظر التجوال. كانت هناك تظاهرات مماثلة في غزة تماهت مع الفرح المصري، وهذه رسالة ثالثة لمن يريد أن يقرأ ويتعلم ويصحح الأخطاء التي ارتكبت.
لم تكن غزة بمفردها، فقد انتشرت الروح نفسها في أرجاء كثيرة من العالم العربي.
ثمة شيء من الرهان على مصر لا يفارق المخيلة العربية، رغم كل الإحباطات التي جرت وتجري. قوة المشاعر العربية رسالة رابعة إلى المستقبل، لكن الألغام تحيطها من كل جانب وتنفجر في وجوهنا بين حين وآخر. كانت معركة اليونيسكو التي بدأت جولاتها الانتخابية في اليوم التالي للتأهل المصري إلى المونديال كاشفة لبعض تلك الألغام.
بحكم الإرث الحضاري لمصر الموغل في القدم، والدور الثقافي الذي لعبته في عالمها العربي بالقرن العشرين، هناك اعتقاد راسخ لدى دوائر عديدة بأحقيتها في تولي منصب المدير العام لليونيسكو، المنظمة الدولية المعنية بالتعليم والعلوم والتراث ممثلة للمجموعة العربية، التي لم تحظ بهذا المنصب ــ حتى الآن ــ على عكس المجموعات الأخرى.
غير أن المناصب الدولية لا تحصد بالأقدميات، أو اعتبارات الجدارة التاريخية وحدها.
أول ملاحظة رئيسية على سباق اليونيسكو أنه لم يكن هناك تنبّه عام إلى الحدث نفسه بأي درجة، وبدت التغطيات الإعلامية شحيحة كأداء واجب ثقيل في أفضل الأحوال.
ثم كانت تلك التغطيات فقيرة إلى حدود بعيدة في المعلومات التي وفرتها للقارئ العام عما يجري في الكواليس.
الملاحظة الرئيسية الثانية أن درجة من التنبه جرت في أعقاب الجولتين الأولى والثانية من انتخابات اليونيسكو بتصدر المرشح القطري حمد الكواري للسباق بفارق كبير نسبياً عن المصرية مشيرة خطاب التي حلت ثالثة.
بدا الأمر أقرب إلى الصدمة، وأفلتت عبارات تنسب الأمر كله إلى رشى انتخابية دون نظر إلى مجمل ما يجري في المنظمة الدولية من صفقات وحسابات وتوزيع مصالح ونفوذ ومدى كفاءة المرشحين لتولي المنصب الأممي الرفيع، بغض النظر عن أحجام بلدانهم. الملاحظة الثالثة الرئيسية أن منسوب التسييس في هذه الانتخابات وصل إلى ذروة غير مسبوقة على خلفية الأزمة القطرية مع أربع دول عربية، بينها مصر، حتى كادت أن تكون مسرحاً لتصفية الحسابات بين أطراف عربية متنازعة، التوافق بينها مستحيل تماماً في ظل المعطيات الحالية.
إذا وصل المرشحان العربيان مساء غد الجمعة إلى جولة الحسم الأخيرة، وهذا احتمال لا يمكن استبعاده، فإن تلك الأطراف المتنازعة سوف تلقي بثقلها المالي، مهما تكن التكاليف، لمنع الجانب الآخر من أن يكسب السباق الأممي حتى لا تكون هزيمة سياسية باهظة. وإذا وصل أحدهما إلى هذه الجولة منافساً لوزيرة الثقافة الفرنسية السابقة أودري أوزلاي، اليهودية من أصل مغربي وكان والدها مستشاراً للملكين الحسن الثاني ومحمد السادس، فباليقين أن الطرف الذي يغادر السباق عند محطته الأخيرة سوف يقف بكل ما يستطيع من قوة ونفوذ لحجب فرصة الفوز عن العربي الآخر.
حسب المعلومات المتاحة، لا تحظى أوزلاي بدعم كاف من وزارة خارجية بلدها، فقد حازت بطاقة ترشحها في نهاية رئاسة فرنسوا هولاند، وكان ذلك الترشح أمراً واقعاً أمام فريق الرئيس الجديد مانويل ماكرون.
هذا أحد تفسيرات تراجع حظوظها إلى المرتبة الثانية حتى الآن، وربما تتغير المعادلات والحسابات بصورة جذرية إذا ما وصلت إلى جولة الجمعة الحاسمة.
كما هي عادة انتخابات اليونيسكو، التي تجرى في خمسة أيام متعاقبة، فإن الحظوظ تصعد وتهبط من جولة إلى أخرى كأوراق «كوتشينة» يجري «تفنيطها» حتى تستقر اللعبة على كاسب أخير. إلى حين إشعار آخر، المباراة لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات والسيناريوات، والمفاجآت غير مستبعدة.
الملاحظة الرئيسية الرابعة أن الاستراتيجية المصرية في إدارة انتخابات المنظمة الدولية افتقرت إلى أي خبرة يعتدّ بها، كالتعويل على أصوات المجموعة الأفريقية التي تبلغ ١٧ صوتاً في المكتب التنفيذي كأنها مسألة مضمونة بالنظر إلى قرار الاتحاد الأفريقي حتى بدت النتائج صادمة، فقد حصد المرشح القطري أضعاف ما حصلت عليه المرشحة المصرية من أصوات القارة السمراء. هذه رسالة أخرى كاشفة للخلل الهائل في العلاقات المصرية الأفريقية.
والملاحظة الرئيسية الخامسة الاعتبارات المالية، بغض النظر عن شرعية أو عدم شرعية استخدام سلاحها، مسألة حاسمة في منظمة تعاني ضائقة مالية تعجزها عن الوفاء بمتطلبات أدوارها ورواتب موظفيها والعجز المالي في حدود ٥٠٠ مليون دولار.
في مرة سابقة، حسمت اليابان الموقع بقدر ما لوحت بقدرتها المالية على حساب مرشحَين عربيين متنافسين، هما: المصري إسماعيل سراج الدين والسعودي غازي القصيبي.
واعتبارات الصورة العامة تدخل في ملف ترجيح مرشح على آخر، وباليقين فإن ملف حقوق الإنسان والحريات العامة نقطة ضعف جوهرية في فرص السفيرة مشيرة خطاب. ورغم انتهاكات قطر بدرجة أخرى في الملفات نفسها وما هو منسوب إليها من تمويل الإرهاب، فإن صدى الانتهاكات المصرية لها صدى مختلف أكبر وأخطر.
هذه كلها رسائل سياسية بالغة الحساسية في وقت يحتاج فيه المصريون إلى استعادة ثقتهم بأنفسهم ومستقبلهم، ولو من ثقب إبرة.
* كاتب وصحافي مصري