إن كان هناك ما يمكن أن نصف به خضر عدنان فهو «قارع الخزان». هذا الإصرار والعناد والثبات الذي هو فيه وعليه، ليس إلا إعلاناً لرفض كل المنظومة الوطنية والسياسية والاجتماعية التي تحكمنا. الشيخ عدنان خرج صباحاً من السجن بعدما شارف على الموت، ومساء يذهب إلى المسجد الأقصى ليحيي ليلة القدر من دون أن ينتظر إذناً من الاحتلال الإسرائيلي، أو يفكر لبرهة في عاقبة ما هو مقدم عليه، وهو الممنوع كبقية سكان الضفة المحتلة من الدخول إلى القدس دون تصريح.
النتيجة كانت أن تم اعتقاله ــ تقريباً في اليوم الذي حرر فيه نفسه بنفسه وجوعه ــ لكن المفاجئ ليس تصرف الشيخ أو اعتقال الاحتلال له. فردود الفعل الأولية لفلسطينيين كثيرين، وقد أكون واحداً منهم، أننا قلنا: هذا جنون ومبالغة يا شيخ خضر... ارحم دموع والدتك ودعها تجف على الأقل... اترك ابتسامة أولادك وزوجتك تكتمل وتزداد اخضراراً! ارحم نفسك وانتظر حتى تسترد عافيتك بعدما خضت إضراباً كاد أن يقضي عليك، هل جننت؟
لكن، بعد التفكير الهادئ والتأمل بعيداً عن الانفعال، لا نجد إلا أن نخجل من أنفسنا ونكتشف أن الجنون، بل الضياع، هو ما نحن فيه، وكأن خضر عدنان أراد اليوم أن يصرخ فينا، ضمن طوابير الناس الواقفة بانتظار الحصول على «تصريح دخول» إسرائيلي إلى القدس، ليذكرهم بماضيهم حين كان للنضال ألف شكل! ها هو يصرخ في طوابير من يقفون آخر كل شهر بكامل انكسارهم ينتظرون راتباً بات سبباً في ذلنا وقهرنا، ثم يصرخ فينا كجثة هامدة تخدرت بأخبار الحكومات وتشكيلها وتعديلاتها، فاعتادت الرضوخ والتسليم للأمر الواقع. يصرخ ليذكرنا بأن الاحتلال موجود في أكلنا وشربنا ورواتبنا وسفرنا، وحتى في بدل وربط عنق قياداتنا!
خضر عدنان، نعم مجنون، لأنه ماض في نضاله. لا يحفل بانقسامنا ولا يقرأ نشرات أخبارنا التي تتحدث عن «الوحدة الوطنية»، ولا ينتظر شيئاً من اجتماعات القاهرة وإعلان الدوحة واتفاق مكة والشاطئ، وقد يبدو أننا لا نحتاج غير الجنون حتى نفيق من سباتنا.
لسنا بحاجة إلى مقالة رزينة فيها تحليل سياسي ومثقلة بلغة منمقة هنا، بل بحاجة إلى الإصغاء إلى صرخة هذا «الشيخ الشاب» الذي أنهكه الجوع والنضال وحيداً، فهو مرآة كل فرد فينا. كل صباح نطل منه على أنفسنا لندرك أن كل ما نحن فيه زيف ووهم: بيوتنا وسياراتنا وسهراتنا ونجاحنا ومشكلاتنا وثرثراتنا، كلها وهم وزيف وسراب أمام معادلة الوطن والاحتلال، وهو فقط الحقيقة. خضر عدنان ماضينا المسلوب منا، والجمرة الكامنة تحت رماد هزيمتنا. خضر عدنان ليس فرداً بل قضية، فهو حمل همين في آن: الأسرى والقدس، ولم ينتظر دقيقة واحدة كي يبدأ إضراباً ثالثاً في اعتقاله أمس، مع أنه لم يدم لساعات.
أما بالنسبة لمن يدور حول السلطة، فإن هذه القضية تخيفهم ان عادت حية خضراء طرية، وعدنان يحرجهم ويعري شعاراتهم الجوفاء، وبمقاومته الحقيقية تكسد تجارتهم بالنضال، لذلك بات أسره أسراً لهم، بل هم لا يريدونه رمزاً، كأن زمن الرموز وفق منطقهم انتهى ويجب أن لا يعود، لذلك لا تستغربوا إن هرولوا طلباً لحريته، لعلهم يسكنون صرخته حتى نستمر في سباتنا.