يوم الثلاثاء الماضي، أحيت الجالية الجزائرية في فرنسا ذكرى ضحايا مجزرة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 1961 في باريس، مطالبة بإدانة حاسمة وكذلك باعتراف رسمي بهذه الجريمة الجماعية. هذا المطلب المزمن يبدو أكثر حيوية اليوم في سياق تعزيز عمليات الفصل، وتشدّد الأجهزة الأمنية الفرنسية تجاه أحفاد المهاجرين (المستعمَرين في السابق).
صحيح أن القمع الجماعي الذي وقع على الجزائريين، في 17 أكتوبر 1961، وتسبّب في وفاة أكثر من مئة شخص عقب تظاهرات دعم لـ«جبهة التحرير الوطنية» جاء في إطار حرب الجزائر، لكن تسلسل واستمرارية الفكر والهيكلية الاستعمارية لا تزال تتجسد في أشكال إدارة وتأطير الجاليات ذات الأصول المهاجرة. فإذا كانت هذه الممارسات المعاصرة ليست بالضرورة مشابهة للعنف الاستعماري الذي مورس على الأجساد «العضوية» و«والتي نزع عنها الإنسانية» للجزائريين، فإن إلغاء نظام قانوني استثنائي لم يؤدِّ إلى إعادة النظر في أنماط التفكير الاستعمارية والتصورات المسيطرة داخل الأجهزة القمعية عن المهاجر، باعتباره «جسداً استثنائياً» (بحسب مصطلح سيدي محمد بركات) يمكن أن يقتل بشكل تعسفي، من دون تبعات قانونية.
رغم سلسلة طويلة من الأحداث المأسوية خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، التي تشهد أن الأهداف المميّزة للعنف الأمني هي في الغالب أحفاد المهاجرين الذين نشأوا في أحياء تشبه الغيتو، ومنبثقين من طبقات فقيرة وليست بيضاء، فإن الإطار التفسيري الذي يفرض نفسه يظل ظرفياً لدرجة كبيرة، ولا يسمح بفهم عميق لطبيعة الممارسات الاستثنائية التي تستهدف هذه الفئة من الشعب.
صحيح أنه في إطار مكافحة الإرهاب في فرنسا، فإن تمديد حالة الطوارئ إلى جانب قانون الأمن العام يعزّزان قبضة الأجهزة القمعية على مجمل المجتمع ويميلان إلى إضفاء الشرعية على تزايد القمع الممارس من قبل الشرطة، لكن تطبيع الإجراءات الاستثنائية لا يشكل قطيعة مع وضع سابق من وجهة نظر الفرنسي من أصول مهاجرة. ألم يُعد العمل، خلال المواجهات التي وقعت في الضواحي الفرنسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، بقانون تمّ تبنّيه خلال حرب الجزائر من أجل فرض حظر التجوال على الفئات الشعبية المستهدفة؟
تطورت الصورة الاجتماعية للمهاجر، وفقاً للسياقات الاجتماعية التاريخية ــ فصنّف كتهديد ديموغرافي واجتماعي في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم ــ وبات اليوم تهديداً وجودياً مرتبطاً بالإرهاب الدولي، لكن المنطق الجوهري لهذه التصورات يبقى العنصرية الاستعمارية.
تسمح أعمال ماتيو ريجوست، الباحث في العلوم الاجتماعية ومؤلّف كتاب «العدو الداخلي ــ الأصول الاستعمارية والعسكرية للنظام الأمني في فرنسا المعاصرة» (دار لا ديكوفرت 2009)، بالتأكيد على البعد الهيكلي للنظام الأمني الفرنسي والمرتكزات الأيديولوجية الاستعمارية لمنطقه القمعي. يظهر ريجوست بوضوح أن الإرث الاستعماري لاستراتيجية مكافحة التمرد، كانت أصل إعادة هيكلة «تفكير الدفاع والأمن» داخل أجهزة الدفاع في فرنسا.
ورغم أن الأطروحة الماركسية تعترف بأن عنف الدولة لا ينفصل عن طبيعتها الرأسمالية، وتعدّ كنتاج طبيعي لإعادة استيراد الأدوات الموروثة من التجربة الاستعمارية والعسكرية في نظام السيطرة والقمع الدولتي، من أجل إخماد الاعتراضات الداخلية للطبقة العاملة، لكن هذه الأطروحة تعثرت حينما تعلق الأمر بمقاربتها للهجرة كـ«تهديد مركزي» في الفكر العسكري ــ الأمني والتعامل الاستثنائي مع السكان.
هذه الأطروحة التي ترى أن أبناء مهاجري المستعمرات القديمة سيكونون عرضة للتمييز وضحايا للعنف، فقط لأنهم يجسّدون الفئة الاجتماعية الأكثر هشاشة، ضحدتها الوقائع على الأرض. في الحقيقة، هناك فئات أخرى أكثر هشاشة، أمثال العمال البرتغاليين «البيض»، أو عمال المطاعم التاميليون، أو حتى الأيدي العاملة الصينية في محترفات صناعة الألبسة، تتعرّض للاستغلال بشكل مفرط في مجتمع خاضع لسيطرة نظام رأس المال. غير أن الاختلاف شاسع في نظرة السلطات لها، إذ إنها ليست موضع تشكك دائم، بعكس الفئات ذات الأصول المهاجرة. لا يعني هذا الأمر أن الأولى ليست عرضة للتضييق والمضايقات، لكن بسبب غياب الخلفية التاريخية الاستعمارية، هي نتجت من وصمة «العدو» الداخلي، الذي يشرعن اللجوء إلى العنف المنهجي.
هذه الحقيقة لا يمكن فهمها بجدية إلا من خلال مراحل تاريخ العنف البوليسي، فمن قضية مالك أوسيكين الذي قُتل في 6 ديسمبر (كانون الأول) 1986 من قبل أفراد شرطة، على هامش تظاهرة ضد قانون «دوفاكيه» حول إصلاح الجامعات، إلى قضية أمين بنتونسي، المعتقل الذي هرب لدى حصوله على تصريح لزيارة أسرته بعد عامين من سجنه، والذي قتل برصاصة في الظهر في 21 أبريل (نيسان)، في بلدة نويزي لو سك، في سين سان دوني، تطول القائمة المروعة للمراهقين من ذوي الأصول المهاجرة الذين قتلوا بشكل مباشر على يد الشرطة، أو في ظروف تورطت فيها الشرطة.

تطورت الصورة الاجتماعية للمهاجر لتصبح اليوم تهديداً وجودياً مرتبطاً بالإرهاب الدولي
في الفترة بين عامي 2000 و2004، أحصت Collectif urgence notre police ،assassine ١٢٧ شخصاً قتلوا أثناء عمليات الشرطة، أغلبهم أحفاد مهاجرون. ولوصف هذه الحقيقة، يستخدم ماتيو ريجوست المفهوم القوي لـ«نظام فصل اندوكلونيال endocolonial نيوليبرالي فرنسي»، الذي يأخذ بعين الاعتبار الرابط بين هيمنة اجتماعية اقتصادية وهيمنة عنصرية في آن واحد، إذ إنها «ليست أنظمة العنف نفسها التي طبقت في المستعمرات، وليست أنظمة العنف نفسها المطبقة ضد الطبقات الشعبية البيضاء».
احتل تحليل منطق إعادة إنتاج علاقة استعمارية بأشكال مختلفة ومتغيرة، حيزاً مهماً في أعمال الباحث الاجتماعي الجزائري عبد الملك صياد، الذي يكشف انتشار الخيال الاستعماري المستبعد لأي تصور للمساواة في الحقوق لهؤلاء الفرنسيين «المهاجرين الذين لم يهاجروا من أي مكان إلى أي مكان»، والذي ينزع بذلك الشرعية عن طموحاتهم ومطالبهم.
يشرح صياد بوضوح المعاملة الخاصة لهذه الفئة، ويشدد على الاستمرارية بين الهيمنة الاستعمارية وإدارة الهجرة في فرنسا، بالقول: «بالإضافة إلى سلسلة من التشابهات التي يمكن فهمها بين الظاهرتين ــ تشابهات تاريخية (الهجرة هي في الغالب بنت الاستعمار المباشر، أو غير المباشر) وتشابهات بنيوية (في الوقت الحالي، تحتل الهجرة في نظام علاقات الهيمنة المكان نفسه الذي كان الاستعمار يحتله بالأمس) ــ فالهجرة تحوّلت إلى نظام بالطريقة ذاتها التي قيل إن الاستعمار كان نظاماً.





كتب الصحافي والمؤلف الجزائري يوسف دريس عن أحداث 17 أكتوبر:
أصدرت مؤلفاً عن 17 أكتوبر من أجل الاحتجاج على القانون الدنيء والمنكر الصادر في 23 فبراير (شباط) 2005 ، الذي يمجّد «الدور الإيجابي للوجود الاستعماري في شمال إفريقيا»، والذي كان بمثابة تزوير لتاريخ الاستعمار الفرنسي. كان هذا العمل رداً مكتوباً على فرنسا الاستعمارية، التي تأسست على العنف والإذلال والسلب والتي كانت العنصرية أساسها الحصري. لذا كان ينبغي إعادة نشر حقيقة الواقع الاستعماري، وكتابي «مذابح أكتوبر 1961 بابون العار» Les Masacres d’Octobre 1961 Papon la honte، هو شهادة من أجل التاريخ والذاكرة.
في خلفية أحداث 17 أكتوبر، كان هناك مفاوضات بين الحكومة الفرنسية والحكومة الجزائرية المؤقتة. غير أن هذه المفاوضات انقطعت بداية في بداية يوليو (تموز) 1961. ورسمياً لم تعد هناك اتصالات. وأرادت الحكومة الفرنسية إضعاف «جبهة التحرير الوطنية»، لذا رأينا تزايداً في القمع.
وفي هذا اليوم، علمت السلطات الفرنسية وأفرادها من الشرطة من مخبريها، أن تظاهرة ضد حظر التجوال تتحضر، ولم يكن هناك ملصقات أو دعوة عامة، إذ تمّت عبر تناقل الكلام قبيل ساعة الصفر. وقد كانت الأماكن المحددة سابقة معروفة لدى الرأي العام الفرنسي والدولي، فهي تظاهرة كبرى يتم تنظيمها في قلب العاصمة الفرنسية في أماكن شهيرة مثل الشانزليزيه، والجادات الكبرى وشارع سانت ميشل.
وينبغي معرفة أنه منذ ذلك الحين، عممت الشرطة سياسة الغارات، وغالباً ما كانت هذه الغارات فرصة مناسبة لإطلاق العنان للعنف. وبداية من سبتمبر (كانون الأول) 1961 على وجه الخصوص، تنامت أيضاً ممارسة الإغراق، إذ إن بعض أفراد الشرطة بدأوا يمارسون إغراق الجزائريين. وسريعاً، في نهاية عصر يوم 17 أكتوبر، نُفذ الكثير من أعمال العنف، وبمجيء الليل تصاعد العنف إلى جرائم، وكان هناك قتلى بالرصاص وقتلى غرقاً. واستولت الشرطة على بعض الأماكن المحيطة، لتحويلها إلى سجن للجزائرين الذين أغير عليهم، لا سيما قصر الرياضيات في مدخل فرساي، واستاد كوبرتين. وحينما وصل الجزائريون إلى هذه الأماكن، تعرّضوا للتنكيل.