ثمة من يذهب في حديثه عن «المشهد الكردستاني» في شمال العراق إلى حدّ القول إنّ «وضع الأكراد الحالي يشي بعودتهم إلى مرحلة ما قبل 1991». هذا الكلام لا يعني أنّ هذا «المكوِّن العراقي» سوف يُهمَّش أو تتم إزاحته، بل يؤشر إلى أنّ عائلة البرزاني التي هيمنت على غالبية مفاصل الحكم والثروة في الإقليم منذ نحو عقد من الزمن، باتت مهدّدة بطيّ «صفحة الزعامة الأولى»، كما يدلُّ على أنّ عهد ثنائية «البرزاني ـــ طالباني» يأفُلُ.
رغم واقعية هذا المشهد، لكن لا بدّ أن يستعد مسعود البرزاني وأقطاب عائلته للاستحقاق الانتخابي المرتقب في الإقليم بعد ثمانية أشهر، والذي يُمثِّل «الفرصة الأنسب» لإحداث خرقٍ في المشهد. وذلك في وقت لن يوفِّر فيه آل طالباني وحزبهم (الاتحاد الوطني الكردستاني)، كما «حركة التغيير» و«الحزب الإسلامي الكردستاني»، وغيرهم، جهداً من شأنه تعزيز حضورهم من خلال الاستثمار في الاستحقاق نفسه.
في أثناء هذا الوقت المستقطع الممتد بين يومنا ويوم تنظيم انتخابات الإقليم الرئاسية والبرلمانية، فإنّ طيفاً وازناً في إقليم شمال العراق أطلق مسار البحث عن «رئيس بديلٍ» للبرزاني، يكون كفيلاً بإعادة الثقة المفقودة بين حكومة بغداد وحكومة الإقليم، وقد يسهم أيضاً في إعادة ترتيب أوراق البيت الكردي الداخلي. وفي حال لم تستجد معطيات من شأنها تحقيق رغبة «صقور آل البرزاني» لناحية إعادة سيناريوات المواجهات الحادة بين أربيل وبغداد، فإنّ «البحث عن بديل» يتناغم ومتطلبات «المشهد الكردي» الراهن، ويتقاطع أيضاً مع معادلات المشهد الإقليمي في مرحلة «ما بعد كركوك»، والتي من المتوقع لها أن تتكرس في المدة المقبلة.
عند هذا المستوى، يحضر اسم السياسي الكردي المخضرم برهم صالح، لا لكونه يقود مشروعاً بديلاً قد يوازي في يوم من الأيام مشاريع عدد من الأحزاب الوازنة ضمن «المشهد الكردي»، بل لأنّ اسم هذا القيادي المنشق عن «الاتحاد الوطني»، ورئيس «التحالف من أجل الديموقراطية والعدالة»، خيار «مطروح بقوّة» في بغداد وفي العواصم الإقليمية.
يسارع أحد المقرّبين من برهم صالح إلى نفي «وجود طرح من هذا القبيل»، في حديث إلى «الأخبار». إلا أنّ المصدر يؤكّد في الوقت نفسه أن «صالح يجهّز لمشروع بديل يهدف إلى إدارة الإقليم في المرحلة المقبلة»، ويبصر النور قُبيل انتخابات الإقليم المرتقبة. ويضيف أنّ صالح «قدّم نموذجاً مقبولاً في إدارة الإقليم» حين تولى رئاسة حكومته بين 2009 و2011 (وقبل ذلك في حقبة أخرى، بين 2001 و2004)، وهو حريصٌ على إبقاء خطوط اتصالاته مفتوحة مع القيادات العراقية التي «تبادلُنا بالترحيب دائماً».

ارتياح في بغداد

«على الأرجح، يُعدُّ صالح الشخصية السياسية الكردية الأكثر شعبية في كردستان العراق، إذ يرى العديد من المواطنين الأكراد أن كردستان نعمت بالازدهار خلال الفترة التي أمضاها» في رئاسة حكومة الإقليم، يقول الصحافي الكردي فاضل هورامي، في مقابلة أخيرة له. ويضيف أنّ صالح «تربطه علاقات جيدة مع طهران وأنقرة وواشنطن، والأهم مع سائر الفصائل السياسية في بغداد، وقد وجّه انتقادات إلى النخبة السياسية بسبب انخراطها في الفساد وسوء إدارة الملف الاقتصادي، وفي حال إجراء الانتخابات، فقد ينجح في تشكيل ائتلاف أكبر لمواجهة الأحزاب الحاكمة الأساسية».

شخصية مقرّبة
من صالح تؤكد أنّه يُعِدّ
مشروعاً بديلاً للإقليم

يُعزز هذه الصورة أنّ الرجل «متمسّكٌ» في الوقت الحالي بالحوار مع بغداد، كما يقول المقرّب منه أثناء الحديث إلى «الأخبار». ويضيف المصدر أنّ ابن السليمانية المولود عام 1960، «يعتقد بأنّ الحلّ لن يكون إلا من خلال التوافق والشراكة مع حكومة بغداد»، وهي رؤية تدخل ضمن مشروع يعمل على صياغته «وسوف يعكسه برنامجنا الانتخابي، والقائمة التي ستُشكّل لاحقاً». أيضاً، يؤكد المصدر أنّ دوائر قرار إقليمية أبدت «ارتياحاً لأساسيات مشروعنا وطرحنا البديل لإدارة المشهد».
يتقاطع حديث «الشخصية المقرّبة» مع أحاديث يجري تداولها راهناً، لعلّ أهمها قول مرجع عراقي رفيع المستوى لـ«الأخبار»، إنّ «التنسيق» بين دوائر القرار في بغداد وصالح وصل إلى «مستوى عالٍ»، مضيفاً أنّه قد يصبح «رئيساً للإقليم» في الأشهر القليلة المقبلة، خاصة أنّ «النقاشات والآراء المتبادلة تعكس ارتياحاً في بغداد لرؤية صالح». وفي السياق، يؤكد أكثر من مصدر متابع أنّ صاحب «الشخصية المعتدلة»، «كثّف في الآونة الأخيرة مروحة اتصالاته بالقيادات العراقية، بما من شأنه رفع أسهمه لديها، خاصة من خلال تأكيده على الالتزام بالسقف الدستوري، ودعم خيارات الحكومة الاتحادية في معالجة تداعيات الاستفتاء».

صفقة إقليمية؟

لا يستبعد عددٌ من سياسيي العراق «صفقة» تضبط من خلالها بغداد إيقاع العلاقة مع الإقليم. «خيار صالح، واردٌ جدّاً» يقول سياسيٌّ عراقي بارز في حديثه إلى «الأخبار»، لافتاً إلى أنّ لصالح «صلة مميزة بالأميركيين، بل البعض يصفه بأنه صنيعتهم». (للإشارة، إنّ مؤسّس «الجامعة الأميركية في السليمانية» أصبح ممثلاً لأول حكومة في إقليم كردستان، انبثقت عن «انتخابات كردستان» عام 1992، ومسؤولاً للعلاقات الخارجية في واشنطن).
يذهب السياسي في حديثه إلى القول إنّ «تراجع حظوظ البرزاني ــ حليف أميركا الأوّل، وتجاهله لنصائح واشنطن، يفرضان بروز زعامات كردية جديدة، خاصّةً في ساحة السليمانية التي تعدّ بيئةً للنفوذ الإيراني». ويلفت إلى أنّ «المعركة المقبلة والمواجهة مع إيران ستكون كبيرة، وستأخذ شكل الصراع الانتخابي، وفي هذا النوع من الصراعات أنت تحتاج إلى شخصيات تُجيد تسويق نفسها، وهي الصفة المميزة لكل من يعرف برهم». لكن من دلالات تعقّد المشهد، أنّه في نفس الوقت، يؤكد مطلعون على خفايا إعادة «ترتيب البيت الكردي» دعم طهران لخيار صالح، وذلك بفعل «تزكيته» من قِبلِ رئيس الوزراء حيدر العبادي، الذي بات يحظى بدعمٍ إيرانيٍّ كبير.
إذا نجح مشروع برهم صالح، وتقاطع ذلك مع تفاهمات إقليمية بخصوص دور متقدّم له، فإنّ الرجل الذي انتمى إلى حزب جلال طالباني منذ منتصف السبعينيات إبان تأسيسه، يمكن أن يشغل «رئاسة الإقليم، أو رئاسة الجمهورية»، هذا مع العلم بأنّه «إذا كان رئيساً للإقليم، أو رئيساً للجمهورية، فهما منصبان قد اهتزا اليوم بفعل النكسة التي لحقت بمشروع مسعود البرزاني، وخسارة أربيل لسيطرتها على المناطق المتنازع عليها»، يقول عارفون بالسياسة العراقية. رغم ما تقدّم، يقول هؤلاء إنّ صالح «أقرب إلى رئاسة الإقليم، لكن في الوقت نفسه فإنّ البرزاني لن يمضي في هذا الطريق إلا مجبراً... وقد يتم ذلك بقرار خارجي».









«لاستقلال نتفاوض عليه»

إذا كان التوافق على برهم صالح ذهب نحو ترشيحه لرئاسة الجمهورية، فإنّ مطّلعين يلفتون إلى أنّ «هذا الخيار قد لا يمرّ في مجلس نواب عراقي تهيمن عليه قوىً سياسية مناهضة للمشروع الأميركي... فأميركا التي لم تتمكن من حماية منصب هوشيار زيباري (وزير الخارجية العراقي الأسبق)، كيف ستتمكن من تمرير برهم؟».
وجدير بالذكر أنّ برهم صالح، وهو مؤسّس «الجامعة الأميركية في السليمانية»، نشر مقالة في «فايننشال تايمز» في شهر أيار الماضي، رأى فيها أنّ «النظام السياسي القائم في العراق منذ سقوط صدام حسين أخفق». وأضاف أنّه يجب على «المكوِّنات العراقية بدء حوار فعّال ضمن مسار يبدأ بمفاوضات بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان»، خاصة أنّ «غالبية الأكراد يريدون الاستقلال... لكن ذلك يجب أن يكون عبر التفاوض مع بغداد».