الأسئلة الكبرى تطرح نفسها على وقع الزلزال السياسي في بنية الدولة السعودية.إلى أين يمكن أن تفضي توقيفات أعداد كبيرة من الأمراء والوزراء ورجال الأعمال ومالكي الشبكات التلفزيونية، التي تبث من الخارج، بذريعة «مكافحة الفساد»؟
بصورة أو أخرى تقوّضت ركائز الحكم التقليدية، التي بنيت فوقها الدولة، من دون أن تتبدّى ركائز جديدة لها قدرة الثبات والدوام.

كما هو معروف، أُسّست المملكة على تحالف عضوي بين الأسرة الحاكمة والمذهب الوهابي.
لم يعد هناك ما يسمى «الأسرة الحاكمة»، فقد احتجز ممثلو أفرعها الرئيسية على خلفية صراعات السلطة الضارية بين أحفاد الملك المؤسّس عبد العزيز بن سعود، ونكّل بهم على نحو غير معتاد، أو مسبوق.
كذلك تصدّع إلى حدّ كبير نفوذ المذهب الوهابي، أكثر المذاهب الإسلامية تشدداً وغلوّاً وتخلّفاً، من دون أن ينهض بناء أيديولوجي جديد يسد الفراغ ويلتحق بالعصر.
انهارت الشرعية التقليدية من دون أن تتأسس شرعية جديدة تسمح بالتحول إلى دولة حديثة ــ دولة مؤسسات وقانون ومحاكمات عادلة.ما جرى ــ بالضبط ــ انقلاب داخلي متكامل الأركان لحسم السلطة لوليّ العهد «محمد بن سلمان» حتى لا تكون هناك أيّ منازعة عليها مستقبلاً.
بترجمة ثانية، هو «انقلاب استباقي» خشية إطاحته بعد غياب الملك «سلمان»، حيث يحظى بانتقادات حادة داخل أسرته جراء سياساته واندفاعاته.
الانقلاب مضى من دون مقاومة تقريباً، وهذا بذاته دليل على هشاشة الوضع السياسي للأسرة واستهلاك نظام البيعة لزمانه وشرعيته. الأهم أنه حظي بغطاء كامل من الولايات المتحدة، الحليف التاريخي التقليدي، ولكل شيء ثمنه المالي والاستراتيجي.
كان لافتاً أن الحجة الرئيسية، التي استخدمها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لدعم التوقيفات، بدت مالية محضة؛ فالذين صدرت بحقهم إجراءات قاسية «ابتلعوا ثروات السعودية على مدى سنوات»، رغم أنه هو نفسه لا يخفي توجّهه لابتلاع تلك الثروات كلها.
لا يعكس ذلك كامل الأهداف الأميركية، فما هو إقليمي أهم وأخطر. كانت الضربة الافتتاحية للزلزال السعودي في صباح اليوم نفسه استقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري من الرياض، لا بيروت، ومن وسيلة إعلامية سعودية حصرياً، لا من أي وسائل إعلامية لبنانية.
لماذا الآن تأزيم الوضع الداخلي اللبناني، كأن كرة لهب ألقيت على مسارحه السياسية؟
لا يشك أحد في أن القرار سعودي، ولأسباب سعودية في نظرتها إلى لبنان ودورها فيه.
هناك إدراك في الرياض أنها خسرت كل الأزمات التي تدخلت فيها ـــ سوريا والعراق واليمن حيث خاصرتها الجنوبية ـــ وخشية من أن تفضي الجوائز الأخيرة بعد انتهاء الحرب على «داعش» إلى تقويض دورها في الإقليم على نحو لا يمكن ترميمه مقابل صعود الدور الإيراني.
كان لبنان هو البطن الرخو كاختبار للقوى والموازين وسيناريوات المستقبل.
جرت الاستقالة المفاجئة للحريري من دون مقدمات تشي باحتمالها، فقد بدت تصريحاته في اليوم السابق على شيء من التفاؤل بنجاح مهمته في رئاسة الحكومة، فضلاً عن لقائه المثير مع علي أكبر ولايتي، أحد كبار مستشاري المرشد علي خامنئي. لم يكن لبنان بكل مؤسساته وقواه السياسية المتعارضة طرفاً في الاستقالة، أو تحديد مواقيتها والأهداف منها. اللعب على الحافة بإنهاء التسوية التي صعد بمقتضاها العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية والحريري لرئاسة الحكومة مجازفة كبرى بأمن لبنان وسلامه الداخلي، وسعيٌ لجرّه إلى احترابات مذهبية وتمهيد ــ في الوقت ذاته ــ لعدوان إسرائيلي جديد. احتمالات الحرب مع إيران شبه مستبعدة بالنظر إلى موازين القوى العسكرية.
واحتمالات العدوان على لبنان ممكنة، إذا لم يحدث تفجير داخلي، لكن كلفته باهظة.
باليقين إسرائيل تقف على الخط، تتابع وتنظر في استثمار الموقف المتأزم. على الأغلب، هي كانت على علم مسبق بالاستقالة المفاجئة عبر الاتصالات شبه العلنية الجارية مع السعودية، أو بواسطة جاريد كوشنير صهر الرئيس الأميركي المعروف بميوله الصهيونية وصلاته الوثيقة برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي زار الرياض قبل فترة وجيزة من الحوادث الدراماتيكية.
لم يتردّد نتنياهو في التقاط مغزى الاستقالة بأنها «جرس إنذار» لخطورة التمدد الإيراني.
هكذا أخذت صورة الحوادث السعودية المتلاحقة ملامحها الأولى. لا يمكن ــ بأي حساب ــ فصل ما هو داخلي حول صراعات السلطة والمال والنفوذ ومستقبل الحكم نفسه عمّا هو إقليمي حول الأزمات المشتعلة بالنيران وتوزيع القوة والنفوذ بعد الحرب مع «داعش».
بعد ساعات من ليلة الانقلاب العائلي، أعلنت الحوادث عن تطور خطير باستهداف مطار «الملك خالد» في الرياض بصاروخ باليستي طويل المدى من الأراضي اليمنية.
لم تكن هذه المرة الأولى التي تستهدف الأراضي السعودية بمثل هذه الصواريخ، غير أن ردّ الفعل اختلف، حيث اعتبرته الرياض عدواناً عسكرياً مباشراً تتحمل مسؤوليته طهران، التي سارعت إلى نفي الاتهامات على لسان كبار مسؤوليها.
بدا التصعيد الإعلامي المتبادل منذراً باحتمالات انفلات السلاح، غير أن أحداً لا يتوقع مثل هذا السيناريو، والأغلب أن توكل المهمة إلى أطراف بالنيابة، وربما تتدخل إسرائيل لتصفّي حساباتها مع حزب الله.
قد يوفر تصريح الوزير السعودي ثامر السبهان، بأن وجود حزب الله في الحكومة والبرلمان، أو أي مؤسسة أخرى لبنانية، «إعلان حرب على السعودية»، ذريعة إضافية للتدخل الإسرائيلي.
استبعاد حزب الله ــ بحسابات الوزن السكاني الذي يمثّله فضلاً عن قوته العسكرية ــ دعوة صريحة إلى الحرب الأهلية.
واستبعاد حزب الله ــ بحسابات قوة الردع الاستراتيجية من منظور الحق في المقاومة ــ دعوة مبطّنة إلى التدخل العنيف.
إلى أين يمضي هذا التصعيد الإعلامي؟
هناك نقطة ما قد تنفجر عندها الأوضاع المأزومة.
في الأزمة اللبنانية، نجحت إلى حدّ ما سياسة التهدئة بامتصاص صدمة استقالة رئيس الحكومة على النحو الذي جرت به، لكننا ما زلنا في أول الزلزال، وتوابعه سوف تتوالى بصيغ وسيناريوات مختلفة لتفجير الوضع.
يقال ــ عادة ــ إن لبنان مرآة العالم العربي، وما قد يحدث فيه له تداعيات أكبر من حجمه.
وفي الأزمة اليمنية، فإنها مرتهنة لحسابات ما بعد إنهاء الأزمة السورية، أو لأيّ صفقات كبرى تتبع نهاية الحرب على «داعش».
إذا ما استمرت الأمور عند ذلك القدر من التصعيد الإعلامي من دون نقله إلى مستوى عسكري نوعي، كاستهداف أبو ظبي بصواريخ باليستية ـــ حسب تهديدات إعلامية ـــ فإنه يمكن التحكم في مسار الأزمة رغم مأساوية الوضع الإنساني.
في هذه الحالة، قد تضطر مصر إلى دخول ميادين المواجهات العسكرية، وينجرف الإقليم كله إلى حروب مدمرة بلا نهاية.
في إدارة الأزمتين اللبنانية واليمنية، افتقدت الدبلوماسية السعودية ما عهد عنها تقليدياً من محافظة وتروٍّ، حيث تغلب على المسؤولين الجدد صفات الرعونة والتهوّر وعدم إدراك مغبة النتائج. الأمر نفسه ينصرف إلى دورها في الأزمة السورية، حيث تتقرر في ميادينها مصائر الأزمات الأخرى.
هناك الآن حقائق جديدة تتحرك على الأرض؛ مناوشات واشتباكات وتصعيدات تنذر بانفلاتات وتداعيات وتدخلات، وربما حروب تأخذ الإقليم إلى المجهول وتضع مستقبل السعودية كدولة موحدة بين قوسين كبيرين.
*كاتب وصحافي مصري