بدأت القصة عام 1855 م عندما نفي الأمير عبد القادر، رمز المقاومة الجزائرية، الى دمشق، وبدأت العائلات الجزائرية ممن ناضلوا معه وتعرضوا لبطش الاحتلال الفرنسي بالهجرة الى بلاد الشام. وتتالت هذه الهجرات بعد ثورة الشيخ المقراني والشيخ حداد، التي أدت الى مصادرة أراضي الجزائريين. من تلك العائلات من استقر في شمال فلسطين خاصة، وفي عام 1948 هجّروا مرة أخرى كفلسطينيين هذه المرة الى دمشق، حيث شكلوا حي المغاربة في مخيم اليرموك أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في دمشق.
هناك، حملوا وثائق فلسطينية سورية ككل الفلسطينيين المهجرين الى سوريا. وإثر الأزمة السورية بدأت هذه العائلات بالتفكير جدياً في العودة الى موطنهم الأصلي الجزائر. وفي عام 2012 اضطر أغلب هؤلاء الى مباشرة العودة فعلاً الى موطنهم الأصلي ولكن... كلاجئين! فكيف يكونون كذلك؟
تخبرنا عائشة تواتي (أم عرب) أن جدها المناضل خرج من الجزائر إثر ثورة المقراني الى شمال فلسطين. وتذكر أن هناك 14 قرية شمال فلسطين كانت موطناً لهؤلاء الجزائريين، منهم قريتها "معذر". كذلك تخبرنا أن أخا زوجها محمد أعراب، وأصله من منطقة القبائل في "تيزي أوزو" في الجزائر، كان أول شهيد أيام الانتداب البريطاني في قريته معذر.
وفي عام 1948 خرجت عائشة الصغيرة من فلسطين ولها من العمر 4 سنوات الى خان المغاربة في حي السويقة في دمشق. وبعد ذلك، استحصل أهلها وبعض العائلات التي رافقتهم على الجنسية السورية، وبقوا في خان المغاربة. أما البعض الآخر فقد رحل الى مخيم اليرموك، أكبر تجمع لفلسطينيي الـ٤٨، ليشكلوا ما سمّي بعد ذلك حيّ المغاربة هناك. هكذا، حمل أبناء حي المغاربة وثائق فلسطينية وسجلوا كلاجئين في الأونروا.
أم عرب، التي خرجت عام ٢٠١٢ من مخيم اليرموك مع هجرة أهل المخيم إثر اشتداد الأزمة السورية، عادت اليه، لكنها عادت فخرجت الى عدرا ومن هناك الى التل. لكن آخر رحلة نزوح قامت بها أم عرب التي يناهز عمرها سبعين عاماً اليوم، كانت الى بلد أجدادها الجزائر، التي حلمت دائماً بزيارتها. هكذا قامت ببيع ذهبها، لتصل لاجئة الى بلدها الأصلي. وعندما سئلت أم عرب عن رأيها بوطنها وعودتها بعد هذا التعب تقول بمرارة واستهجان: "بقولولنا سوارا"، أي يلقّبونهم بالسوريين، كما تقال باللهجة القبائلية الجزائرية. ثم تتحدث وأمارات القهر على وجهها، عن صعوبة استكمال أوراقها الثبوتية؛ فهي كانت تريد تجديد جوازها الجزائري قبل انتهاء صلاحيته لتستطيع دخول الأردن، حيث تقيم ابنتها، للقيام بعملية القلب المفتوح هناك. لكن، وبسبب قضايا تزوير الجنسيات الجزائرية من قبل بعض اللاجئين السوريين، تم توقيف أغلب الاجراءات القانونية المتعلقة بهؤلاء حتى إشعار آخر. هكذا، يدفع أحفاد الثورة الحقيقيون ثمن أفعال تجار الجوازات المزورة.
أم عرب تحمل الى اليوم أوراق الطابو الخاصة ببيتها في فلسطين، في حين تركت نصف أبنائها بسبب الفقر، في دمشق. تجاعيد وجهها المتعب تنطوي على تاريخ ثوراتنا من الجليل الى البويرة التي تفوح بعطر الياسمين. هل تستحق كل هذا المشوار من الهجرة والنزوح واللجوء؟ هل تستحق كل هذا التعب؟ وهل تستحق كلمة وطني ما قاله ابنها لها يوماً "قوارب الموت بزوارة أرحم لنا"؟
من جزائريي مخيم اليرموك من كان يحمل أصلاً الجنسية الجزائرية، ومنهم من استصدر أوراقاً له بواسطة السفارة الجزائرية في دمشق، ومنهم أيضاً من اضطر إلى أن يذوق ويلات البحث الشاق عن أوراق الأصول في مناطق أجدادهم في الجزائر ليستطيعوا أن يجدوا ملجأً يكون بمثابة وطن. استقرت معظم تلك العائلات في "مخيم سيدي فرج" في العاصمة الجزائرية، وبعض الشباب في مخيم "قورصو" في ولاية بومرداس، الواقع تحت رعاية الهلال الأحمر الجزائري. لكن، ورغم جهود الهلال لتأمين احتياجات هؤلاء من طعام ومأوى، كان مجرد محطة للهجرة الى أوروبا عن طريق ليبيا بقوارب الموت، أو عن طريق المغرب براً. أما السبب في أنهم لم يستطيعوا البقاء، فأولاً اللغة القبائلية، وهي لغة سكان الجزائر الاصليين، أو الأمازيغية. وهي لغة بعيدة كل البعد عن لغة الشام، التي أصبحت عبر عقود، لغتهم الأصلية. أما السبب الآخر فقد كان أن بعضهم حاول أن يعمل كل في مجاله، فكان ذلك شبه مستحيل، بسبب ضرورة تكلم اللغة الفرنسية في الجزائر، لذلك استعان الكثير منهم بالأعمال الحرة وخاصة أعمال البناء. ومن الأسباب الأخرى أيضاً أجرة المنازل المرتفعة، بالنسبة إلى مداخيلهم، حيث إن أجرة المنزل تدفع عن سنة كاملة حسب قوانين البلاد، أو في أحسن الأحوال ستة أشهر. هكذا فضّلوا دفع هذه المبالغ لقاء الهجرة إلى أوروبا.
بتعب عجوز وببراءة مقتبل العمر تخبرنا روان السعدي مواليد 1995، وهي صبية فلسطينية من أصول جزائرية، بنت البويرة، المنطقة التي فيها جامع باسم السعدي، جدها الأكبر الذي كان مقاتلاً مع الامير عبد القادر، أنها خرجت من مخيم اليرموك في عام 2012 الى المطار فوراً، للتوجه لأول مرة الى الجزائر. وحين وصلتها، سكنت مع عائلتها أحد كارافانات (براكسات) "مخيم سيدي فرج". ومع كل تلك المشاق، استطاعت اليوم أن تكون الأولى في دفعتها بين طلبة السنة الأولى للعلوم السياسية في جامعة الجزائر. عن شعورها في بلاد جدّها الاصلية تقول: "بحس بانتمائي للجزائر مش لشعبها. بحس في نوع من الحب للأرض وإنو أنا إلي فيها شي. يعني صار إلي حق باني أشارك سياسياً وأكون مواطنة بامتياز مش لاجئة! لكن كمان بحس حالي غريبة بين الناس، وإنو مجتمعي مش هذا المجتمع، وإنو ما في ناس بتفهمني ولا بتنسجم معي، وإني مستحيل أقدر أكمل باقي عمري هون". وتضيف "يعني يعني إيه في ناس كثير طيبة، بس في ناس تانية بتعاملك كغريبة".
هؤلاء ليسوا لاجئين سوريين ولا لاجئين فلسطينيين، بل هم جزائريون يحملون وجع فلسطين والشام في آن واحد. هؤلاء أحفاد أبطال ثورتنا العظيمة ثورة المليون ونصف المليون شهيد. واجبنا اليوم جميعاً أن نسأل أنفسنا لماذا يرمي هؤلاء بأنفسهم في أحضان اللجوء الحقيقي في أوروبا وهم على أرض أجدادهم الأبطال: الشيخ المقراني والشيخ حداد والأمير عبد القادر، الامير الذي يقف تمثاله شامخاً في قلب العاصمة الجزائرية.