انفجر تاج الملكة في فيلم "ملكة جمال الصداقة" ( Miss Congeniality) على الشاشة، ومعه توالت سبعة انفجارات متفرقة، هزت جدران منزلنا في الوقت ذاته. لم نعِ أن الحرب بدأت، وأن صفارات الإنذار التي انطلقت لم تكن كتلك التي عهدناها في تدريبات المدارس.مصدومتين مقطوعتي الأنفس حدقنا أنا وراية ببعضنا بعضا، كأن شللاً كلياً أصاب أطرافنا وربط السنتنا فأقعدنا كسيحتين، بدأت أرتجف ثم شعرت بماء ينحدر من بين ساقي، نظرت إلى الأسفل.. كانت حركة لا إرادية لجسد بدأ يدرك رويداً رويداً ما يحصل حوله. عرفت حينها أنني بلت على نفسي، وأن الخوف الذي عصر قلبي لم يكن بسبب "فرقيع" الأعراس في ذلك الصيف.
هرعت أمي، التي اصفر وجهها على نحو غريب، باتجاهنا، كانت تصرخ على نحو هستيري «ضربوا صواريخ من لبنان.. بلشت الحرب»!
ركضنا من الطابق الثالث، كل التدريبات التي أجرتها الجبهة الداخلية في مدارسنا باءت بالفشل. فحين «يقع الفاس في الراس» يتغير كل شيء. اختبأنا في بيت جدي، تكورت كجنين تحت الكنبة الخشبية، فيما جلست رايه فوقي، لكن جدي لم يقل الا الجملة الغريبة التالية «انشالله نلحق ناكل كبه نية قبل ما نموت»!

ستي فتحت الباب آتية من "المخيطة" (ورشة الخياطة) أو الأصح خلعت الباب، لا أعرف لماذا ظلت ممسكة بالمقص وقطعة القماش التي كانت تعمل عليها، في يدها، صرخت «جاي يا غلمان جاي.. الولاد بالبركة!»، وفجأة انتبهت أمي التي كانت تحاول الاتصال بوالدي أن أخوتي ليسوا هنا!
أخذت امي تصرخ وتلطم على وجهها، أحسست بماء آخر يسيل، يزيل الدبق العالق من البول الأول، تجمدت في مكاني وانفجرت مقلتي المتحجرتين ببكاء حارق، وتساءلت ماذا إذا وقع الصاروخ على البركة ومات أخوايَ الصغيران؟ صرخت جدتي بوجه أمي: خلص وحّدي الله إسا بيجو الولاد! ثم التفتت الي بوجهها وهي لا تزال تمسك بالمقص وقطعة القماش. شاهدت قطرات الدموع تتكون في عينيها حتّى كوّنت حبلاً طويلاً غمر أنفها وفمها.
"إرجعي يا سيدي عند أمك أكيد بتكون خايفه عليكي". كانت ساقا راية ترتجفان وتهزان الكنبة. ستي قالت بغضب: " وين بدها ترجع اسا بلكي ضربو كمان مرة ؟ اتصليلها يا ستي أحسن إشي". "الخطوط مقطوعة" قالت امي باكية. سمعنا أصوات أقدام تركض في الخارج، كانت لأخويّ الصغيرين ولأشخاص آخرين يركضون عراة.
"ولكو وقع «الثاروخ» حد البركة، معرفوش يضربو غير ع بلدنا !.. يضربوا ع كرمئيل كلها يهود! شو بدهن فينا إحنا"، قال أخي الصغير وهو يمسح دموعه بين يدي أمي.
لم يكن هناك ملجأ في بيت جدي، حيث انه قد بني قبل عام 1991 بكثير، أي قبل قانون الملاجئ الإجبارية. الاختباء تحت الكنبة أو الطاولة او بجانب عامود كان السبيل الوحيد للشعور بالأمان، غير أنني اكتشفت منذ اليوم الأول للحرب العدوانية أنني من الأقلية التي تشعر بالخوف، فالناس شعروا بالفرح لأن هناك من ينتصر لهم. صواريخ حزب الله تساقطت فوقهم فيما كانوا يركضون بفرح إلى سطوح منازلهم يشاهدون ما خلفته من دمار على بيوتهم أو بيوت جيرانهم.
في الايام التي تلت اختبأنا في ملجأ بيت عمي، كان زعيق صفارات الانذار التي لا تهدأ يقلقنا أكثر من دوي الانفجارات. خوفي على عائلتي وبالتحديد على والدي، الذي لم يترك سطح منزلنا وهو يراقب بمنظار، الصواريخ التي كانت تهطل فوقنا كالمطر، مغموراً بسعادة عجيبة، كأنما انتصرت لشبابه الذي قضاه بين حركات نضالية طالبية وأحزاب خيبت آماله.
كان يهزأ من خوفنا ويذهب إلى عمله على نحو اعتيادي، يعود آخر النهار فيخبرنا عن الصمت الذي يخيم على الشوارع «بترمي الإبره فيها بترن..شعب جبان».
لمْ نترك التلفاز لحظة واحدة، كُنا نعد الشهداء اللبنانيين الذين يسقطون واحداً تلو الآخر، وكنا نبكي بألم، فهؤلاء هم اخوتنا، والعدو الذي يرتكب المجازر بحقهم ويتخذنا دروعاً بشرية حول معسكراته، هو عدونا أيضاً. مجزرة قانا هدّت حيلنا، أمي بكت كما لم تبكِ من قبل، حتّى أبي بكى. كُنا نترقب خطابات السيد نصرالله بشغف، ونُعدُّ «تسالي» من المؤونة التي خزّناها في اليوم الذي أسر فيه الحزب الجنديين، ونرقد أمام شاشة التلفاز نتهيأ لخطاباته التي كانت تأسرنا نحن الصغار قبل ان تأسر أهلنا.
في الجمعة الموافق للرابع من آب 2006، سقطت سبعة صواريخ أخرى، كُنا نجلس في المخزن المجاور للبيت حيث ستي تعد الكبة النية التي أصر جدي على أكلها خوفاً من أن يموت قبل ذلك. ركضت وحضنت خالي منهارة بين يديه لاستيقظ بعد ذلك على صراخ أخي مدركة أن زميلي في المدرسة وقريبا له استشهدا. غير أنه تبين لاحقاً أن الأخ الوحيد لزميلي ومعه قريب آخر من العائلة هما من استشهد بعدما سقط صاروخ بالقرب منهما.
أيضاً في وادي النسناس بحيفا، وفي عكا، وترشيحا، وحي الصفافرة بالناصرة وفي دير الأسد سقط شهداء آخرون، بالصواريخ التي كانت تحصد أرواح العرب أكثر من اليهود. كنّا نقول عنهم «متل القطط بسبع أرواح». قال السيد في أحد خطاباته بحزن محرجا، أن الحزب يحتسبهم شهداء، أهاليهم مسحوا دموعهم وقالوا «معلش فدا المقاومة»، وكانت اسرائيل تنهار لسماع ذلك، اسرائيل التي ظنت أنه إن احيتنا بـ«نعيم» فإننا سنغفر ماضيها المجرم بحقنا.
مع الوقت، باتت أصوات القصف الصاروخي، وصفارات الانذار التي لا تتوقف، لا تطاق، ومع استشهاد الشابين في مجد الكروم، حملنا أمتعتنا كغيرنا من الناس ورحنا إلى القدس. فرغت سطوح البيوت ممن يترقب سقوط الصواريخ، صارت الحياة كنزاً ثميناً للكل. ومن هناك بقينا نتابع عن كثب مستجدات الحرب، خوفنا على حياة اللبنانين كان أكبر من خوفنا على أنفسنا. تمنينا أن تنتصر المقاومة وتخسر اسرائيل الحرب، معادلتنا كانت مختلفة عن معادلة ابناء جيلنا من اللبنانين، لم نكن لنحزن في الحقيقة إذا خسرنا في لحظة ألعابنا وذكراياتنا وكتبنا أو إذا قطع صاروخ أطرافنا، لانه باستطاعتنا ترميم كل شيء والصاروخ الذي يصيبنا، يصيبنا خطأ، لأن المقاومين يقصدون قتل عدونا لا قتلنا.
وتبقى أغرب القصص أنه في أحد ايام الحرب سقط صاروخ على مدينة نهاريا أصاب يهودياً خرج من الملجأ ليدخن فمات، ووصف أحد الأصدقاء فرحة الامهات في البقيعة المجاورة لنهاريا «زغردوا وهللوا» لأن الصاروخ لم يسقط في بلدهم ويقتل العرب، فيما كان أبناؤهم من الجنود الدروز يهاجمون المقاومة في الجنوب.
«الآن.. في عرض البحر، في مقابل بيروت البارجة الحربية العسكرية الاسرائيلية التي اعتدت على بنيتنا التحيتة وعلى بيوت الناس وعلى المدنيين.. انظروا اليها تحترق وستغرق ومعها عشرات الجنود الاسرائيلين الصهاينة»، كانت عشرات الأيدي بين الملجأ وغرفة الصالة تصفق وعشرات الافواه تكبّر. بكينا وضحكنا، وصار شغلنا الشاغل البحث عن محل حلويات للاحتفال. عرفنا أن المقاومة منذ تلك اللحظة انتصرت وأن اسرائيل أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الجحيم!
منذ اليوم الذي وصلت فيه إلى لبنان وأنا امر بمحاذاة الحرب، الحرب التي لمْ تنته يوماً، الحرب التي تركت آثارها على كل شيء: الجدران، وجوه الناس، أسلوب الحياة، لكنهم رغم الجراح منتصرون، أخجل من الحديث أمامهم عن الحرب لأن خوفي من «الكتيوشا» يساوي صفراً أمام ما عاشوه.
في ذكرى الحرب من كل عام، اجلس أمام الشاشة لأشاهد فيلم Miss Congeniality ، السي دي أصبح مجروحاً من كثرة الاستعمال.. في كل مرة ينفجر فيها تاج الملكة أتذكر أنه في الحرب المقبلة ستنتطلق صواريخ من الجليل تقبل صحراء النقب!