منذ فترة وعبارة ما ترن في خلايا دماغي، على نحو وسواسي، يكاد لا يفارق تفكيري، والعبارة هي: "عالم ليس لنا"، لقد كانت كلمة "لنا" تتردد في دماغي في نهاية العبارة مع تأثير تكرار وصدى، مثل التكرار والصدى اللذين تعطيهما آلات التأثير الصوتي، وفي خضم هذه النوبة، أتساءل عن هذا الشيء الذي ليس لنا، أو هذا العالم الذي ليس لنا، أما كلمة "ليس" فكنت أشعر بأنها مجرد انهزام لغوي ممزوج بانكسار من نوع ما لم أدركه بعد، وبقيت كلمة "عالم" هي اللغز.
كل ما استطعت أن أستوعبه وأفهمه من هذه الحالة وتجلياتها الهستيرية، أن العبارة هي عنوان كتاب أدبي، لكن نسيت اسم كاتبه، وكأن العقل الباطن لدي قد طبق قاعدة "موت المؤلف" الموجودة لدى المدرسة الإنسانية في الأدب.
بدأت أقلب في "دولاب" ذاكراتي عن الأعمال الأدبية، سواء التي قرأتها أو مرت عليّ عناوينها، استذكرت الكتب التي احتوت كلمة عالم، فتذكرت رواية حول تاريخ الفلسفة كانت بعنوان "عالم صوفي" لجوستين غاردر، ثم بدأت أشك بأن "عالم ليس لنا" هو رواية لعبد الرحمن منيف، إلا أنني كنتُ مثاراً بالشكوك حول هذه الفرضية، وأثبت عدم صحتها بعد أن وجدت في إحدى المكتبات رواية لمنيف كنت قد ابتعتها وقرأتها، وهي بعنوان "عالم بلا خرائط" كتبها بالاشتراك مع الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، فالتبس عليّ الأمر بين العنوانين، بعد كل هذه المعمعة من حالات الاستذكار والتلاطم بين العناوين، وحالات الهذيان، بدأت أقرب إلى ظني المخبأ، والقائل: أن "عالم ليس لنا" عنوان رواية لغسان كنفاني!
وبما أن الأمر قد التبس منذ البداية، فهذا يثبت على الأقل أنني لم أقرأ هذا الكتاب لكنفاني، أو لم يمر عنوانه عليّ أثناء جولاتي في المكتبات، وعندما بحثت في مكتبتي اليتيمة عن كتب لكنفاني، لم أجد إلا رواية بعنوان يحمل بؤساً وطنياً، كانت "ما تبقى لكم"، إضافة إلى مجموعته القصصية "أرض البرتقال الحزين". بعد حل معضلة "موت المؤلف"، واستطاعتي حسم لمن يكون "عالم ليس لنا"، آثرت أن أنزل نسخة إلكترونية لهذا الكتاب من الانترنت، فبدأت أقلب صفحاته الأولى وما تحويه من تعريف عن المؤلف وسيرته وكلمة الناشر، وأعمال المؤلف، هنا كانت الصدمة، لقد كان الكتاب مجموعة قصصية وليس رواية كما ظننت في بادئ الأمر.
وعلى عادة المجموعات القصصية، تكون هناك قصة ما تحمل نفس عنوان المجموعة القصصية، فآثرت أن أقرأ القصة التي تحمل عنوان المجموعة القصصية، أي: "عالم ليس لنا"، وفتحت صفحة الفهرس، فكانت عناوين القصص مرتبة على النحو الآتي: "جدران من الحديد، الصقر، كفر المنجم، ذراعه وكفه وأصابعه، عشرة أمتار فقط، المنزلق، علبة زجاج واحدة، عطش الأفعى، لو كنت حصاناً، نصف العالم، الشاطئ، رسالة من مسعود، جحش، رأس الأسد الحجري، العروس". خمس عشرة قصة ولا توجد بينها قصة بعنوان "عالم ليس لنا"! ماذا تعني هذه الحيلة؟! خلل ما؟! أو فعل مقصود من هذا الكنفاني؟
إن بقية المجموعات القصصية لغسان كنفاني، تجري فيها العادة أن يكون عنوان المجموعة هو عنوان إحدى القصص الموجودة في تلك المجموعة، وهذا ينطبق على مجموعته القصصية الأولى "موت سرير رقم 12"، وكذلك الأمر ينطبق على مجموعة "أرض البرتقال الحزين"، أما بالنسبة لمجموعة "عن الرجال والبنادق"، فإن مثل هذا النمط من العناوين شمولي وعام، ولا يصلح أن يكون عنواناً لقصة محددة، إضافة إلا ذلك فالعنوان لا يحمل أي غموض في السياق الفلسطيني والتحرري للفترة التي كان يكتب فيها كنفاني، فقد كتب في إهداء هذه المجموعة ما يلي: "هذه تسع لوحات، أردت منها أن أرسم الأفق الذي أشرق فيه الرجال والبنادق والذين – معاً- سيرسمون اللوحة الناقصة في هذه المجموعة"، خاتماً الإهداء بأول حرفين من اسمه الأول والأخير، أي: غ.ك.
نعم! هناك قصة مفقودة لغسان كنفاني بعنوان "عالم ليس لنا"، هل ذهبت هذه القصة مع الريح؟ أم أخفاها كنفاني؟ أم أنه كان يتمنى أن يكتب قصة بهذا العنوان ولم يفعل؟ هل أهذي أم أفتري؟ نريد هذا العالم الذي ليس لنا، أكان يقصد العالم بكليته وفضائه ومجرته، أم كان يقصد بلاده فلسطين المغمى عليها على شاطئ شرق المتوسط؟ وقد يكون هذا العالم حيفا التي ظل يعرفها عندما عاد إليها، لكنها أنكرته فأصبحت عالماً ليس لنا!
ألا ليت غسان حي، يخفف عنا وطأة السؤال عن "عالم ليس لنا". سأفكر بالتسلل ليلاً إلى محبرته حيث ينغمس وهو يكتب تحت ضوء الطاولة، أقترب أكثر منه وأنفض رماد سيجارته المهملة في المنفضة، كي لا تحرق أوراقه، وأحنو قليلاً إلى أذنه، وأهمس له كوحي من السماء: عالم ليس لنا! لعله يكتبها ويفصح عن هذا العالم.