يوم وقف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى جانب الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز والرئيس الأميركي دونالد ترامب لإضاءة «البلورة السحرية»، إيذاناً بتدشين «مركز مكافحة التطرف»، على هامش القمة الأميركية ــ الإسلامية في الرياض، تردّد حينها أن المصريين استشعروا حرجاً، في أن يُنظر إلى مشاركة رئيسهم في هذا المشهد الرمزي، باعتبارها انخراطاً في محور جديد، رسمه ذلك الغُراب الأشقر، الآتي لقرع طبول الحرب في الشرق الأوسط.
ولعلّ ما خفف من الإحراج هو الموقف المتمايز الذي ورد في خطاب السيسي أمام القمة، والذي شذّ عن أداء الجوقة الإسلامية ــ الأميركية التي راحت تصوّب نيرانها الكلامية على إيران حصراً، بوصفها التهديد الأكبر في الشرق الأوسط، فكان أن قارب الحرب على الإرهاب من زاوية مختلفة، تتعلق بتجفيف منابعه، حتى في الدول المشاركة في القمة، وهو ما ينسحب، بطبيعة الحال، على الدولة المضيفة نفسها.
في الواقع، لم يكن الموقف المصري المتمايز جديداً، فقبل ذلك بأشهر، كانت الأحاديث في الأروقة الدبلوماسية عن توتر في العلاقات السعودية ــ المصرية، على خلفية سلسلة مواقف أطلقتها القيادة المصرية بشأن سوريا، لجهة رفض التدخل العسكري الخارجي، وتأكيد ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية من الانهيار، والتشديد على أن سقوط سوريا يشكّل تهديداً للأمن القومي المصري، وهو ما ترجم بخطوات عملية حين صوّت المندوب المصري في مجلس الأمن لمشروع قرار روسي بشأن سوريا في تشرين الأول عام 2016، ما أثار غضباً سعودياً نادراً، خرج إلى العلن، من خلال تصريحات دبلوماسية وإجراءات اقتصادية.
ولكن الأمور سارت على نحو مغاير، بعد زيارة ترامب للشرق الأوسط، فالقمة الإسلامية ــــ الأميركية، أعقبتها مباشرة إجراءات خليجية ضد قطر، سرعان ما انضمت مصر إليها، ضمن إخراج دبلوماسي بارع، أدرج في ما سمّاه البعض «تبعية» مصرية للسعودية في إطار «تضامن عربي» لطالما شكّل شعاراً للدبلوماسية المصرية، وحرصاً تقليدياً على ترجمة شعار «أمن الخليج من أمن مصر» في كافة الاستحقاقات.
وفي الواقع، يمكن فهم التحاق مصر بقطار التصعيد السعودي ضد قطر، انطلاقاً من خصوصية مصرية بحتة، فبين القاهرة والدوحة «ما صنع الحدّاد»، بالنظر إلى الدعم القطري الواضح لجماعة «الإخوان المسلمين»، سواء قبل سقوط نظامهم في أواسط عام 2013، أو بعده، من خلال دعم التحركات الهادفة إلى إسقاط نظام ما بعد الثلاثين من يونيو.
وفي ظل التصعيد الجنوني المتجدد، الذي ينتهجه نظام آل سعود، ضد لبنان، والذي يواصل مساره التصاعدي، منذ الاستقالة المفاجئة لرئيس الحكومة سعد الحريري، وما رافق ذلك من تهديدات مباشرة لإيران وحزب الله، عادت مصر مجدداً لتظهر موقفها المتمايز، من التطورات الإقليمية، وهو ما تبدّى، بشكل واضح، وعلى أعلى مستوى، حين حذر السيسي من مغبة اللجوء إلى الخيارات العسكرية، وتشديده على الحلول السياسية لتجنيب المنطقة توتراً لا تحمد عقباه.
وفي الحقيقة، لم يترك السيسي شكوكاً حول موقفه من الأزمة الحالية، فهو أكد بوضوح أن «الأمن في الخليج خط أحمر» وأن «أي تهديد لدول الخليج يمسّ أيضاً أمننا القومي»، لكنه حذر، في المقابل، من أن «المنطقة تعاني ما فيه الكفاية من الاضطرابات وليست في حاجة للمزيد منها»، لا بل ذهب أبعد من ذلك حين قال: «نحن لا نحتاج إلى تعقيدات إضافية تتعلق بإيران وحزب الله»، مؤكداً بقوله: «أنا ضد الحرب، فالأزمات يمكن حلها من خلال الحوار».
وفي الواقع يمكن فهم موقف السيسي انطلاقاً من عوامل عدّة، اقتصادية وسياسية، تترجم من خلال دبلوماسية حذرة للغاية، تسعى مصر من خلالها إلى إمساك العصا من الوسط، وهي تسير بحذر في حقل ألغام ممتد من طهران إلى الرياض.
ومن خلال تلك الدبلوماسية، ذات الطابع الخاص، تسعى مصر للمحافظة على توجه عام، يجعلها أقرب إلى السعودية - الداعم العربي الأساسي للنظام الحاكم على المستويين الاقتصادي والسياسي - وذلك خلال التشديد على خطورة المسّ بـ«أمن الخليج»، وفي ذلك إشارة إلى إيران، وإبداء تحفظ عن كل مبادرات التقارب مع الجمهورية الإسلامية.
ومن المؤكد أن ذلك التوجه العام قد أرضى السعودية خلال الفترة الماضية، ما سمح باستمرار الدعم السعودي للاقتصاد المصري الذي يواجه أخطر أزماته، برغم بعض المحطات التي توقفت فيها تلك المساعدات لأسباب متعددة، من بينها انخفاض سعر النفط منذ نهاية عام 2014، ما جعل هذا الدعم السعودي، مرتبطاً بأثمان سياسية ذات طابع إقليمي.
وانطلاقاً من ذلك، ثمة من تساوره الشكوك في أن الموقف المصري الحذر قد يكون مرحلياً، وقد يتغير كلياً، إذا مضت السعودية بعيداً في تصعيدها ضد إيران وحزب الله، وإذا ما انتهج محمد بن سلمان سياسة أكثر جنوناً عنوانها العريض «من ليس معنا فهو ضدنا»، ما يفرض مزيداً من الضغوط على السيسي.
ولكن ثمة مواقف مشككة أكثر تطرفاً، يطرحها بعض المعارضين، الذين يطلقون توصيفاً ساخراً على السياسة الخارجية المصرية، وهو «دبلوماسية الرز»، ويذهبون إلى حدّ اعتبار مواقف السيسي الأخيرة، بمثابة «ابتزاز» للسعودية، للحصول على مزيد من الأموال في مقابل الدعم السياسي، وربما العسكري، للحرب المفتوحة التي يخوضها محمد بن سلمان في أكثر من اتجاه.
وفي حال ذهاب الأمور إلى مزيد من التصعيد، فقد تواجه الدبلوماسية المصرية صعوبات كبيرة في الحفاظ على ذلك المسار الذي سلكته، منذ سقوط نظام «الإخوان المسلمين»، والهادف إلى ضمان استقرار النظام السياسي، وتحقيق أقصى المكاسب الممكنة، وهو ما ترجمته في تنويع سياستها الخارجية، بالانفتاح على جهات دولية بعيداً عن الولايات المتحدة (روسيا والصين)، وانتهاج ما يشبه «الحياد الإيجابي» في سياسة المحاور، بالقدر الذي يتيحه هامش المناورة القائم حالياً في شرق أوسط يزداد الاستقطاب فيه حدّة.
انطلاقاً مما سبق، فإنّ الدرجات العالية من التصعيد في المنطقة، ستشكل في حقيقة الأمر، صداعاً جديداً في رأس النظام المصري، خصوصاً أن ثمة إجماعاً بين المراقبين على أن المواجهة السعودية أو الإسرائيلية المحتملة ضد حزب الله في لبنان، قد تصل شظاياها مباشرة إلى الحدود المصرية، المضطربة أصلاً بفعل النشاط الإرهابي.
من هنا، يمكن فهم إحدى حيثيات المبادرة المصرية، التي تمضي بهدوء، لحل الأزمة الحالية، والتي قادت وزير الخارجية سامح شكري إلى ست دول عربية، هي السعودية والكويت والإمارات والبحرين وعمان والأردن.
خلفية تلك الجولة أفصح عنها المتحدث باسم وزارة الخارجية السفير أحمد أبو زيد، حين أشار إلى أن الهدف هو «تصدير فكرة أن مصر قلقة بشأن تصاعد الموقف والأحداث الجارية على الساحة العربية».
لكنّ القلق الآني ليس المحرّك الأحادي للمبادرة المصرية، فثمة شعور عربي كامل بغياب مصر عن المشهد الإقليمي، منذ أن غرقت في مشاكلها الداخلية في أعقاب «ثورة 25 يناير»، وربما قبل ذلك، ما أفسح المجال أمام جهات إقليمية أخرى، للقفز عن هذا الدور، والتصدي للعديد من الأزمات العربية.
ولعلّ هذا ما بات يشكل قلقاً إضافياً، يتخطى اللحظة الآنية للتصعيد السعودي، ويدور عموماً حول استشعار الدبلوماسية المصرية بأن دورها الإقليمي مهدد، في ظل الخرائط الجديدة للتحالفات التي بدأت ترتسم في الشرق الأوسط، وفي صلبها الاندفاعة السعودية التي بلغت مستوى متقدماً بعد زيارة ترامب الأخيرة للسعودية، وذهابه مباشرة إثر ذلك إلى إسرائيل، دونما المرور بدولة عربية وسيطة، وهي خطوة نظر البعض إليها برمزية كبيرة، واستتبعت بسلسلة تحركات تشي بأنّ السعودية على قاب قوسين أو أدنى من التطبيع المباشر مع إسرائيل.
ولعلّ هذا الأمر يثير هواجس مصرية متعددة المستويات، إذ من شأن التطبيع السعودي - الإسرائيلي المحتمل أن يلغي حصرية الدور الوسيط التي تمتعت بها مصر منذ اتفاقية كامب ديفيد في نهاية السبعينيات، والتي وفّرت حماية دولية للاستقرار السياسي في البلاد، وينزع بالتالي ذلك الامتياز الذي ازدادت أهميته منذ انتهاء العزلة العربية لمصر، في مرحلة التحولات الإقليمية والدولية المفصلية في مطلع التسعينيات.
وربما هذا ما يفسر أسباب القفزة السريعة للدبلوماسية المصرية في محاولتها استعادة دور الوسيط في الأزمات العربية، وهو ما تبدّى خصوصاً مع رعاية المصالحة الفلسطينية الأخيرة، ومن ثم الحراك الحالي، الخاص بالأزمة اللبنانية - السعودية، وامتداداتها الإقليمية، والتي تمثل في حقيقة الأمر فرصة نادرة لمصر، لتجديد دورها التقليدي، بشكل جديد، يجعلها وسيطاً دائماً محتملاً بين محورين متناقضين يتشكلان في الشرق الأوسط، وسط تقاسم نفوذ روسي ــ أميركي، ويسحب بالتالي البساط من تحت أقدام الأتراك المتطلعين إلى دور مثيل.
ولكن هذا التحدّي ليس بالسهل، فالدور المصري المفقود يتطلب السير بخطى حذرة على حبل يمرّ فوق فوّهة بركان إقليمي، يقترب من الانفجار في أي وقت، ما يجعل الحراك الدبلوماسي المصري محكوماً بالحظ، الذي قد يحالف مصر أو يعاندها، في كافة المحطات المفصلية المقبل، ولعلّ أقربها زماناً الاجتماع الوزاري المرتقب في القاهرة، يوم الأحد المقبل، وما سيعقبه من تصعيد مفتوح أو تهدئة مؤقتة.