قرار خطير وفرصة تاريخية. هذا هو التوصيف الأنسب لخطوة دونالد ترامب الأخيرة بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني وتوقيعه أمر نقل سفارة الولايات المتحدة إليها. هال هذا القرار العالم بأسره، بدءاً بحلفاء واشنطن في أوروبا والمنطقة العربية. والقرار بلا ريب شديد الخطورة.
هو سيسمح بتسريع عملية التطهير العرقي والضم والتهويد التي بدأت في القدس منذ احتلالها عام 1967. سيوفر هذا القرار الغطاء السياسي الدولي اللازم لتمرير مشروع القدس الكبرى المعدّ من قبل لجنة وزارية بتكليف ودعم من بنيامين نتنياهو، والهادف إلى ضمّ الكتل الاستيطانية في جوار القدس، وأولاها مستوطنة معاليه أدوميم، ما يؤمن أغلبية ديموغرافية وازنة فيها.
لكن جميع ردود الفعل المحذرة والمستنكرة، الصادرة عن أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة والعالم، ليست سوى نوع من الرياء الرخيص المهين لذكاء الشعوب العربية، وأوّلها الشعب الفلسطيني الأبّي. الكلمة المفتاحية التي تتيح فهم الهمّ الفعليّ للجهات التي أطلقت هذه التصريحات، الزاخرة بالكلمات والعبارات المكرورة والممجوجة عن السلام والتعايش والقوانين والقرارات الدولية، هي كلمة استقرار. خوفها الكبير هو أن يودي قرار ترامب بالاستقرار الهشّ الذي ساد الضفّة الغربيّة بعد الانتفاضة الثانية واغتيال الرئيس الشهيد ياسر عرفات. تعلم جميع هذه الجهات الأوروبية والعربية أنّ ما يُسمّى مسار السلام ولد ميتاً، وأنّ الاستيطان والضمّ تعاظما منذ انطلاقته بعد اتفاق أوسلو في أيلول 1993. وبدلاً من أن تحاول الضغط على إسرائيل سياسياً واقتصادياً لإلزامها باحترام اتفاق السلام المزعوم والقرارات الدولية العزيزة على قلبها، قامت على العكس بمكافأتها عبر تطوير نوعي لعلاقاتها معها في جميع المجالات المذكورة، بما فيها المجالات الأمنية والعسكرية. ما تُريده بالفعل هو استمرار عملية الإبادة السياسية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، أي عملية تدمير مقومات وجوده على أرضه من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ولكن على نار هادئة، حتى لا تتجدد المواجهة في فلسطين مع نتائجها وتداعياتها التي ستؤثر على مصالح حلفاء إسرائيل في المنطقة وربما في العالم.
اختار المفكر والمؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي عنواناً صائباً لكتابه المهم عن الرعاية الأميركية لما يُسمى مسار السلام «عرّابو الخداع» (Brokers of deceit). يُلخّص العنوان حقيقة هذه الرعاية منذ بداياتها. أخرج دونالد ترامب الولايات المتحدة من دور الرعاية المخادعة عبر قراره الذي يُشكّل إعلان حرب أميركية على الفلسطينيين والعرب، مسلمين ومسيحيين، وعلى جميع المسلمين والأحرار في العالم. شرّع هذا القرار الأبواب لانتفاضة فلسطينية ثالثة بدأت إرهاصاتها بالظهور منذ أكثر من عامين. الفلسطينيون والعرب أمام فرصة تاريخية لفتح جولة جديدة من المواجهة في صراعهم المديد ضد الاحتلال، ستكون مآلاتها لمصلحتهم إن أحسنوا إدارتها. فالجيش الإسرائيلي المهزوم في آخر أربع حروب خاضها منذ عام 2006 سيكون في وضع أضعف في مواجهة انتفاضة شعبية فلسطينية شاملة في مدن وبلدات وقرى الضفة الغربية وفي القدس. لكن الشرط الأول لتحقيق هذا الهدف هو وقف التنسيق الأمني من قبل السلطة الفلسطينية مع الاحتلال وانخراط جميع القوى الوطنية والاسلامية في المواجهة. أما على المستوى العربي، فإن اعلان ترامب يعاود فرض القضية الفلسطينية كأولوية على جدول أعمال جميع اللاعبين السياسيين، أنظمة وحركات شعبية. الموقف الفعلي من هذا القرار المصيري والخطير بالنسبة إلى حاضر الأمة ومستقبلها سيرسم الخط الفاصل بين القوى الوطنية والقوى العميلة. لن يكون مصير المتواطئين والمتخاذلين أفضل من مصير الانظمة العربية بعد النكبة. أما الولايات المتحدة، فهي سرعان ما ستدرك النتائج الوخيمة لقرارات رئيسها الأحمق. فالقوات الاميركية موجودة في سوريا والعراق وفي بعض دول الخليج، والمصالح الأميركية منتشرة في العالمين العربي والاسلامي. من يعلن الحرب على شعوب بأكملها عليه توقّع مفاجآت غير سارة. سيذكر التاريخ أن ترامب من حيث لا يقصد فتح نافذة فرص ربما تكون كبيرة أمام أعداء الامبريالية الأميركية. شكراً دونالد!