وادي النضارة | أثناء التخطيط لزيارة إحدى قرى وادي النضارة، ستستوقفك أوّل الأمر صعوبة الاعتماد على وسائل النقل الجماعيّة انطلاقاً من اللاذقية، من دون أن يُشكل وجود عدد لا بأس به من أبناء الوادي طلّاباً في جامعة تشرين أي فارق. وما لم تكن راغباً أو قادراً على دفع كلفة سيّارة خاصة تُقلّك (حوالى 20 ألف ليرة، 70 دولاراً تقريباً) فثمّة حلّان متاحان: استقلال الرحلة اليومية الوحيدة من اللاذقية إلى صافيتا (تتبع لطرطوس) ثم استئجار وسيلة نقل من صافيتا إلى مرمريتا، أو الانطلاق من اللاذقية نحو طرطوس، لتستقلّ منها سيارة «الفان» اليوميّة الوحيدة إلى الوادي، شريطة أن تكون قد ضمنت لنفسك حجزاً مسبقاً فيها (تتسع لـ 14 شخصاً).
استغرقَت رحلتُنا من طرطوس إلى قرية المشتاية ساعةً ونصف ساعة، رغم أن المسافة بينهما حوالى 55 كيلومتراً فقط. وكان لافتاً أنّنا لم نخضع لأي عملية تفتيش، وأنّ أحداً من ركّاب «الفان» لم يُضطرّ إلى إخراج بطاقته الشخصيّة عند أي من الحواجز المنتشرة على امتداد الطريق. وبدا واضحاً أنّ عناصر الحواجز يعوّلون على أن السائق من أبناء المنطقة، ويعرفُ الركّاب جيداً!

«إمارة الحصن»... كانت هُنا

هُنا؛ سيداخلك لوهلةٍ إحساسٌ بأنّك تركت الحرب وراءك. وهو إحساس ناجمٌ عن أسباب كثيرة: سحر الطبيعة الذي تشتهر به المنطقة، ولطف أبنائها الذين لم تُغيّر الحرب طباعهم الدمثة المنسجمةً مع كون المنطقة مقصداً سياحيّاً قديماً، والأناقةُ التي تصبغ معظم التفاصيل. رغم ذلك، تشعر بوجود شيءٍ ناقص في كل ما حولك. العثور على العنصر المفقود سيتطلّب التحدث مع السكّان، ومحاولة الخوض في حكايات الحرب وانعكاساتها.
تُشرف قلعة الحصن على الوادي، وقد تحوّلت إلى مصدر لمعظم مشكلات المنطقة منذُ أن اتّخذها مسلّحو «جند الشام» بزعامة اللبناني خالد المحمود (أبو سليمان الدندشي) مقرّاً لـ«إمارتهم الإسلاميّة». يتفق الجميعُ هنا على أنّ «الظروف الأمنية تحسّنت بعد عودة الحصن» إلى سيطرة الدولة السوريّة. قبل عام وأربعة أشهر (منتصف آذار 2014)، أفاق أبناء الوادي فجأة على أنباء دخول الجيش السوري إلى القلعة. وهو أمرٌ خلّفت السهولة التي تمّ بها استغراباً سعيداً، كما تركت نتائجه لاحقاً شعوراً كبيراً بالارتياح.

... والحرب مستمرّة

توقّفت أسطوانة القذائف و«الغزوات» الخاطفة التي كانَ مسلّحو الحصن يشنّونها بين وقت وآخر على أطراف الوادي، ومخاطر الاشتباكات المتكررة في الجوار. رغم ذلك، لا يخفي البعض قلقهم من «عودة الأوضاع إلى التدهور فجأة، كما سبق أن تحسّنت فجأة». وهو قلقٌ تُغذّيه الحالات المماثلة التي تكرّرت في غير مكان من الجغرافيا السورية. ورغم أنّ الحرب ابتعدت قليلاً، لكنّها لا تزال تتحكّم بمعظم التفاصيل، وخاصةً في الشق الاقتصادي.

يخبر صاحب الفندق
عن رصاصةٍ في فك فراس لا تزال موجودة
النازحون حملوا معهم حكايات كثيرة، وقهراً كبيراً. كذلك احتفظت قرى الوادي بنصيب وافر من قصص الموت والخطف. اللافت أن حالات الاختطاف لم تتوقف (انخفض عددها بشكل كبير) رغم زوال الجيوب المسلّحة في الجوار. أمّا قصص الموت الكثيرة، فتبدو دافعاً كافياً لقول إحدى الأمهات المكلومات: «واجب الوطن يغنّج ولادو، مو يقتلهم»، قبل أن يتشعب الحديث حول وطنٍ قتله كثيرٌ من أبنائه، وقُتلَ كثيرٌ منهم تحت شعارات «وطنيّة».

الشّهيد الحي

في فندق النضارة (قرية المشتاية) يعمل فراس نادر. يمتاز الشاب بلطف استثنائي وحيويةٍ لافتة للانتباه. فراس هو أحد «الشهداء الأحياء»، وبطل قصّة موجعةٍ اشتهرت آنَ حدوثها. حين عرفنا حكايته، كان الشاب نائماً في ملجأ الفندق، حيث اعتاد النوم منذ تعافيه. «لم يعد قادراً على النوم إلا في الملجأ، رغم تغيّر الظروف الأمنيّة» يقول صديقٌ له. قبل عام ونصف عام، كان فراس وصديقه فادي متّى متّجهين نحو بلدة مرمريتا حيث يسكن. لكنهما وقعا ضحيّة كمينٍ لمجموعة تسلّلت من الحصن، وكمنت على جانب الطريق. تلقّت سيّارة فراس وابلاً من الرّصاص، جرّ المسلّحون جثّة صديقه فادي، وقاموا بقطع رأسه وغرس صليبٍ مكانه. تبدو نجاة فراس أشبه بمعجزة، بقي الشاب واعياً لما يدور حولَه، وتظاهر بالموت. سمعَ أحاديث المسلّحين، وصوت السكين الذي جزّ بصعوبة عنق صديقه. سمعَ أيضاً محاولاتهم إحراق السيّارة قبل أن يأمرهم رئيس المجموعة بالمسارعة إلى الفرار لسببٍ ما.
يخبر صاحب الفندق، طوني خولي، عن «رصاصةٍ في فك فراس لا تزال موجودة حتى الآن. ويبدو أنّها ستبقى موجودة، هذا هو الخيار الأفضل وفقاً للأطباء». يُشير خولي إلى أنّ «أبرز ما يلفت الانتباه أنّ الحادثة لم تحوّل فراس إلى شخص حاقد».
ويضيف: «هل التقيتم حفيظة؟ هذه الفتاة من قرية الحصن. لا تعلم شيئاً عن عائلتها، ويمكنكم القول إنني تبنّيتها». تعمل حفيظة في الفندق، وتعيش فيه منذ حوالى ثلاثة أعوام. يؤكد خولي أنّ «فراس كان أكثرنا عطفاً عليها، وقد استمرّ كذلك بعد تعافيه. لم يخطر في باله مثلاً أن يأخذها بجريرة ما لحق به من بعض أبناء بلدتها».

مرمريتّا التي تجيد الإصغاء

تُعتبر بلدة مرمريتّا واحدة من أكثر بلدات الوادي حيويةً. ورغمَ انحسار إقبال المصطافين والسياح الذين كانوا يُغرقون البلدة في مثل هذه الأيام، لا تزال تحتفظ بحيويتها. ثمّة عدد كبير من العائلات التي اختارت مرمريتا وغيرها من قرى الوادي مكاناً لنزوحها. كذلك، لعب انتهاء العام الدراسي وعودة كثير من العائلات (التي تسكن في محافظات أخرى) لقضاء الإجازة هنا، دوراً في الحفاظ على اكتظاظ مطاعم ومقاهي البلدة مساءً. كذلك حافظ المركز الثقافي على نشاطاته في كل مراحل الحرب. تبدو مديرة المركز أوديت أديب معتزّة بذلك. والواقع أنّ المركز مشهودٌ له بالتميّز منذ ما قبل الحرب.
معظم الأنشطة تقام حالياً في فترتي الصباح والظهيرة.
في خلال أمسية شعريّة، كان الحضور معقولاً قياساً بأنشطة تقام في كبرى المدن السورية، وكانت «نوعية الجمهور» تجيد الإصغاء بطريقة لافتة. وبالعموم... مرمريتا تجيد الإصغاء إلى كل شيء، بما في ذلك صوت الحرب.




نزيه أبو عفش: المنتصرون لا يدفعون الثمن

في مرمريتّا يعيش الشاعر الكبير نزيه أبو عفش. ابن البلدة الذي غادرها لفترةٍ أوّل الحرب، لم يلبث أن عاد إليها، وهو مثلها يُجيد الاحتفاء بضيوفه. يسأل: «بدكم تعملوا شي عن المنطقة؟»، قبل أن يقول: «فتشوا إذاً عن ضحايا الحرب وأبطالها السريّين، فهؤلاء لا يحبّون الظهور ولا يجيدونه». ينصح بالجلوس قرب محلّ خضر مثلاً، ومراقبة أولئك الذين يأتون للسؤال عن أسعار السلع، قبل أن ينصرفوا خاويي الوفاض إلا من الخيبة والحسرة. يضحكُ بمرارة تختلط بالسخرية، ويقول: «في كل الحروب هنالك من يدفع أثماناً باهظة. فيما المستفيدون من الحرب يتغنّون بحب الوطن وبضرورة التضحيات، فإذا انتهت الحرب راحوا يتغنّون بالانتصار».