قدر هائل من الازدراء تجاه العرب، بمن فيهم حلفاء الولايات المتحدة، دفع الرئيس دونالد ترامب إلى الإقدام على خطوته الأخيرة بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل سفارة بلاده إليها. عنصرية ترامب الفجّة وحماقته الواضحة قلّ نظيرهما بين الرؤساء الأميركيين المعاصرين. فحتى جورج بوش الابن، الرجل ذو الذكاء المحدود الذي دمّر العراق وأدمى الشرق الأوسط بحجّة إعادة صياغته، لم يجرؤ على اتخاذ القرار الذي اتخذه ترامب.


يعيد هذا الأخير تذكير العالم، وخاصة الشعوب العربية، بعد حقبة «الأوبامانيا»، أي الفاصل الذي وصل خلاله أسمر ذو أصول أفريقية «مثقّف ويعرف العالم» إلى مركز القرار، بالوجه الحقيقي والبشع جداً للولايات المتحدة. ترامب رئيس «شديد البياض» ويعدّ نفسه سليلاً للآباء المؤسسين وناطقاً رسمياً باسم أنجح مشروع استعماري في التاريخ العالمي المعروف، الولايات المتحدة، تمكّن من إبادة غالبية السكّان الأصليين، والاستيلاء على قارّة بأكملها مع ثرواتها الهائلة، والشروع بنهضة اقتصادية حقيقية بفضل العبودية أساساً، وباسم سياستها الخارجية القائمة على «غطرسة القوّة». هو التعبير الأكثر صلافة حتى الآن عن هذه الغطرسة وهي سمة من سمات السياسة الخارجية الأميركية وعمّا ينجم عنها من ازدراء للآخرين، أي بقية العالم، وبشكل خاص شعوب الجنوب، أو الملوّنين، التي «تخصصت الولايات المتحدة بشنّ الحروب عليهم وقتلهم منذ الحرب العالمية الثانية» كما تقول الكاتبة الهندية الموهوبة آرونداتي روي.
مع نهاية الثنائية القطبية، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والحرب الأولى ضد العراق بحجّة تحرير الكويت عام 1991، أطلقت الولايات المتحدة ما يسمّى مسارَ السلام بين العرب والإسرائيليين في مؤتمر مدريد في شهر أكتوبر/ تشرين الأول من السنة نفسها على قاعدة مبدأ «الأرض مقابل السلام». وقد شاركت جميع الأطراف الرسمية العربية المعنيّة مباشرة بالصراع مع إسرائيل في هذا المؤتمر ووافقت على المبدأ الذي عقد على أساسه: إعادة الأراضي العربية المحتلّة عام 1967 مقابل السلام. لو ألزمت الولايات المتحدة إسرائيل بهذا الانسحاب، أي الانسحاب من 22% من فلسطين التاريخية ومن الجولان المحتلّ، في ذلك السياق الدولي والإقليمي، لكنّا أمام قيام منظومة إقليمية مستقرّة نسبياً في ظلّ سلام أميركي (Pax Americana)، أي هيمنة على الإقليم وعلى موارده النفطية وعلى أنظمته السياسية واقتصاداته. لكن الولايات المتحدة لم تفعل وسمحت لإسرائيل بالمضي بسياسات الاستيطان والضمّ. السؤال الذي يفرض نفسه اليوم بعد 26 عاماً هو الآتي: لماذا «فوّتت» الولايات المتحدة هذه الفرصة التاريخية لترسيخ هيمنتها على المنطقة التي تسمّيها جميع أدبياتها الرسمية «منطقة مصالح وطنية حيوية»؟ الجواب الوحيد المقنع هو ازدراؤها الشديد للعرب، وفي الطليعة منهم حلفاؤها. هي لا تعتبر نفسها ملزمة بالإيفاء بأي من تعهّداتها تجاههم، ولا تقيم لهم أي وزن جدّي، وتغلّب أية اعتبارات أخرى، مصالح إسرائيل أو حساباتها الانتخابية الداخلية، على مصالحهم واستقرار أنظمتهم. وقد أظهرت التطورات اللاحقة أن هذه السياسات سمحت بين أسباب أخرى باشتداد عود قوى المقاومة في لبنان وفلسطين التي أضحت رقماً صعباً في المعادلة الإقليمية، وهو أمر يتناقض مع الأهداف العليا للاستراتيجية الأميركية.
محطّة ثانية شديدة الأهمية، تتجلّى فيها سياسات الازدراء، هي العدوان الأميركي على العراق عام 2003 والمشروع المعلن لإعادة صياغة الشرق الأوسط. هذا المشروع والحرب التي شُنّت في سياقه كشفا مرّة أخرى، الرؤية الأميركية للمنطقة، «دولاً وشعوباً»، باعتبارها فضاءً قابلاً للاستباحة والتفكيك وإعادة التركيب حسب ما ترغب واشنطن. وكانت الحرب على العراق كما سمّاها خبراء ومسؤولون أميركيون سابقون عارضوها «حرباً اختيارية» وليست «حرب ضرورة» كتلك التي شُنَّت على أفغانستان للردّ على عمليات 11 أيلول. لم يكن العراق المحاصر، برأي هؤلاء، يشكّل أي تهديد للمصالح الأميركية في المنطقة، أو لسيطرتها الاستراتيجية في تلك الفترة على جزء كبير منها. بل بإمكاننا الزعم أن الأوضاع بالنسبة إلى الولايات المتحدة قبل الحرب كانت أفضل منها بعدها. وقد عارض أغلب حلفاء أميركا العرب الحرب وحذّروا من نتائجها على الإقليم، لكن واشنطن مرّة أخرى لم تُعِرْ مواقفهم أي اعتبار.
قرار ترامب الأخير فرصة لتلقين الولايات المتحدة درساً لن تنساه. هذا بالطبع من مصلحة أعدائها، أي الغالبية الساحقة من الشعوب العربية وقواها الوطنية الحيّة، لكنه قد يكون أيضاً، وبحدود معيّنة، من مصلحة حلفائها. فقط عندما تقتنع واشنطن بأنّ لسياسة الازدراء أثماناً فعلية، ستضطر إلى مراجعة حساباتها.