آخر ما كانت تتوقعه إدارة دونالد ترامب أن يكون الاعلان عن القدس عاصمة لإسرائيل سبباً لتبلور هذا التناغم والتكامل بين محور المقاومة وقوى المقاومة في فلسطين، وعلى رأسها حركة حماس. ولعل الكابوس الأشدّ الذي يمكن التقدير أنه بات أكثر حضوراً لدى صن~اع القرار في واشنطن وتل أبيب، أن تعود قضية فلسطين لتحتل صدارة المشهد الاقليمي، ومحور الفرز بين المعسكرات في المنطقة.
ويمكن القول إنّ هذا المسار لو تواصل تصاعدياً فسيسهم في إعادة خلط خارطة التحالفات وينقل ثقل المعركة، من جديد، إلى داخل فلسطين، لكن هذه المرة مدعومة من محور استطاع الانتصار في معركة إقليمية امتدت ساحاتها من طهران وصولاً إلى لبنان ومروراً بسوريا والعراق، وما زالت متواصلة في اليمن.
لم يكن خطاب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية مجرّد كلمة في مناسبة، بل محطة في سياق تأسيسي لمنازلة يتمّ الإعداد لها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، والإدارة الاميركية مباشرة. وكشفت المفردات والمواقف والخيارات التي أعلنها في خطابه عن الكثير من الأجوبة التي كانت محور تساؤلات بعد كلمة أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، التي دعا فيها إلى تشكيل غرفة عمليات مشتركة لقوى المقاومة، وأن جهود وإمكانات حزب الله ستكون في خدمة متطلبات انتفاضة فلسطين. وأكمل هنية المشهد الذي رسم ملامحه عندما دعا قبل أيام إلى انتفاضة شعبية في مواجهة قرار ترامب. وحدّد لهذه المواجهة هدفين اثنين: إرغام الإدارة الأميركية على التراجع وإسقاط قرار ترامب، وإسقاط ما يسمى «صفقة القرن».
مما يميّز هذه الأهداف أنه لم يذهب بعيداً في تحديد الأهداف المرحلية، بل حدد ما يمكن أن يشكّل أرضية مشتركة لالتفاف كافة القوى السياسية والمقاومة على الساحة الفلسطينية، بما فيها حركة فتح. والتزم هنية في خطابه أمام جماهير حركة حماس بإسقاط هذا المخطط مهما كلّف من أثمان.
وبعيداً عمّا يمكن أن تؤشر إليه المسارات التي حددها رئيس المكتب السياسي للحركة، لتحقيق هذين الهدفين، من تحوّل في الخطاب والخيار، بالقياس إلى مرحلة «السنين العجاف» الماضية، كان لافتاً جداً تحديده الصريح والمباشر والواضح الذي عكس التزاماً وتمسّكاً بخيار المقاومة، مع كل ما ينطوي عليه من متطلبات تتصل بتحالفات إقليمية، في إشارة الى محور المقاومة، الذي بادر قبل أيام على لسان أمين عام حزب الله والجنرال قاسم سليماني إلى وضع ثقله دعماً للمقاومة الفلسطينية في مواجهة مخطط الإدارة الأميركية الذي يستهدف القدس وفلسطين والمنطقة.
المسار الأول الذي شدّد عليه، هنية، هو الدعوة إلى الوحدة الفلسطينية عبر معالجة التفاصيل المتبقية بسرعة، والاتفاق على استراتيجية نضالية وطنية. أما المسار الثاني، فهو «بناء تحالفات قوية على مستوى المنطقة، وبناء تحالفات قوية على مستوى الأمة»، مؤكداً أن «معركة القدس ليست معركتنا وحدنا، بل هي معركة جماهير الأمة، كل الأمة». وفي موقف بدا أنه يلاقي بشكل مباشر وواضح مواقف قادة محور المقاومة، رحّب هنية «بكل موقف غيور وأصيل يساند القدس ويناصرها... فلنشكّل غرفاً مشتركة للتفكير الاستراتيجي مع كل القوى، ومع كل مكوّنات هذه الأمة». وهو ما دعا اليه السيد نصرالله في خطابه الأخير.
والمسار الأخير تمثل بالدعوة الى استمرار الانتفاضة، محذّراً من أنهم في الادارة الاميركية والصهاينة يراهنون على «تعبكم، وعلى أن الامة لا تملك النفس الطويل»، ولا تملك استراتيجية متدحرجة متصاعدة، وأن «الكل سيرجع، والواقع سيبقى واقعاً، والقدس ستبقى لنا». لم تكن «حماس» بهذا الوضوح والواقعية منذ سنين. فكلمة هنية أرست قواعد التحرّك الفكرية والسياسية للتنظيم الفلسطيني. القائد «الحمساوي» أكمل «الدائرة» التي كانت قائمة قبل أحداث «الربيع العربي»، فهذا القوس المتشكَّل من طهران إلى بيروت لا يُستكمل من دون الفلسطينيين.