شخصية خليجية رسمية التقت وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، أخيراً، في لقاءين منفصلين: عام وخاص. في اللقاء العام، كانت الابتسامة لا تفارق محيّا الأمير، وكان يبدي خلقاً رفيعاً لضيوفه الذين يتعمد مبادرتهم بالتحيات ويسأل عن أحوالهم وأحوال من خلفهم. وعلى العكس، في اللقاء الخاص، كان التجهّم، وحدّة الطبع، واللسان السليط طبائع تجْثم على شخصيته، فلا يقبل أن يتحدّث أحد في حضرته، فضلاً عن أن يقاطعه أو يعارضه، فـ«قوله فصل وأمره متَّبع».
في الواقع العملي، ينبري محمد بن سلمان لأشد المهمات التاريخية حساسية، تتطلب مواصفات خاصة واستثنائية للانتقال بالمجتمع والدولة معاً من حال إلى آخر. بصرف النظر عن الشروط المؤهّلة للنهوض بالمهمة ونجاحها، فإن الرجل بما استجمع من سلطات وراكم من صلاحيات جعلته في موقع الآمر الناهي الذي بيده تغيير كل شيء بدءاً من الوضع القانوني للمرأة، وصولاً إلى دين المجتمع.
وفي الأحوال كلها، لا يصحّ عزل حزمة الطقوس الليبرالية في شكلها الاجتماعي والثقافي عن سياق «رؤية» باتت الشغل الشاغل لمن وضع مصير الدولة رهاناً لها وهي مرهونة به. وليس على سبيل المحايثة التعامل مع ضروب الخروج عن النص المجتمعي كما لو أنها الفعل المجعجع الذي سيعيد تشكيل المجتمع والدولة...
ولأن لكل عصر ضرباً من السذاجة، حسب نيتشه، فإن عصرنا على ما يبدو يصخب بأشكال شتى من السذاجة بما تنطوي على أخطار وجودية. فمن كان يتوقّع صعود شخصيات مثل ترامب، ومحمد بن سلمان مع فريقه المجلّل سذاجة، ومحمد بن زايد، في أكبر عملية خطف لإرادة مئات الملايين من البشر؟
الجدل القيمي لم يعد ذا جدوى، فالأزمنة يطهّر بعضها بعضاً، وما كان رجساً من عمل الشيطان في زمن غابر بات اليوم، بفعل تطوّر الزمن، مضمونياً، محموداً وربما واجباً.
يذرف حرّاس الفضيلة دموعاً غزيرة وساخنة على خروج دولة الشريعة عن السكّة. كان جواب المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ على قرار إدخال السينما الى «بلاد الحرمين» فجاعياً، مستعيداً الصورة النمطية للسينما بكونها أداة إفساد أخلاقية وثقافية. في الجوهر، تمثّل السينما وأضرابها أدوات اختراق لحصن السلطة الدينية الذي كان منيعاً في وقت سالف، وفي نهاية المطاف، فإن تغييراً بهذه الفارقيّة من شأنه أن يؤول إلى تآكل نفوذ سدنة المؤسسة الدينية بشكل متسلسل. ثمة تفسير إيماني يلجأ إليه المحبطون والمنصوص قرآنياً: «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميراً».
التجابه الأيديولوجي لا يندكّ حصرياً في قضايا الشباب والمرأة التي يستثمر وليّ العهد فيها طمعاً في جني أرباح سريعة في حلبة الصراع على السلطة، وربما لتحقيق حسم سريع على توقيت التتويج الرسمي له ملكاً، ولكن أيضاً يعكس التجاذب الهوياتي بين التيارات المتنافرة ثقافياً متمظهراً في السباق نحو إعادة توزيع مراكز السلطة. لا شك في أن التيار الديني، الرسمي من باب أولى، يناضل من أجل الإبقاء على الحد الممكن، أو حتى الأدنى، من سلطة تتآكل أمام ناظريه بفعل موجة التغييرات الاجتماعية والثقافية التي يحدثها ولي العهد بملء سلطته المطلقة. ولا شك أيضاً، أن التيارات المضادة ستضاعف فاعليتها النضالية من أجل تعويض ما خسرته في السابق وتثبيت خريطة سلطة تكون فيها شريكاً فاعلاً، وملء أي فراغ يخسره الديني.
عضو مجلس الشورى السعودي سامية بخاري طالبت في 12 كانون الأول الجاري بإزالة فتاوى من منصّة الإفتاء الرئيسية في المملكة، أي «اللجنة الدائمة للإفتاء» وحذف الفتاوى القديمة، على قاعدة الصلاحية المنتهية زماناً، وقالت: «من المعلوم أن الأحكام الاجتهادية مبنية على العرف والعادة، وهي تتغير بتغير الزمان والمكان»، وطالبت المفتي بـ«إعادة درس العديد من المسائل في ضوء المستجدات والقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة والأعراف المتغيرة...». بكلمات أخرى، ما تدعو إليه العضو بخاري هو إنتاج فتاوى عصرية تواكب مفاعيل «الرؤية» على الأرض. فيما طالبت عضو شورى أخرى (فاطمة القرني) بكسر الاحتكار الذكوري لمنصب الإفتاء وإشراك المرأة في العملية الإفتائية.
هي تغييرات مجنّحة وشمت «الرؤية»، ومن البلاهة النظر إليها من زاوية واحدة، فنحن أمام مشهد شديد الالتباس، يغمر فيه النهم الخفي للأشياء، ويجعلنا نتوهّم أموراً لا صلة لها بالجوهر الحقيقي للحقيقة. فما نعتقده انفتاحاً اجتماعياً وثقافياً، ينعكس ضدّياً في تصريفه السياسي، إذ كما في انتقالات موجّهة اقتصادية واجتماعية سابقة منذ بدء برنامج التحديث في مطلع السبعينيات كانت المخرجات السياسية دائماً تأتي عقيمة.
دليل واحد يكفي لتقريب الصورة، فبإزاء الاحتفالية الصاخبة بالانفتاح الثقافي والاجتماعي والفني التي تقودها «هيئة الترفيه»، وتحطيم القيود الاجتماعية والأيديولوجية على حرية المرأة والشباب، ثمة نزوع ارتدادي كشف عنه «قانون جرائم الإرهاب وتمويله» في الأول من تشرين الثاني 2017، أي قبل ثلاثة أيام من حملة مكافحة الفساد. القانون الذي حلّ مكان قانون 2014، مرّ من دون أن ينال اهتماماً كافياً رغم تعريضه حياة الكثيرين للخطر، إذ يسمح القانون الجديد بإصدار أحكام صارمة (بما في ذلك حكم الإعدام) على أي شخص يدان بأي شكل من أشكال الدعم أو المشاركة في أنشطة إرهابية. الأخطر في القانون يتمثل في الإدراج الضمني لحرية التعبير في خانة النشاطات الإرهابية، إذ يقضي بالسجن لمدة تراوح بين خمس وعشر سنوات لوصف الملك أو ولي العهد «بأي وصف يطعن بالدين أو العدالة»، سواء كان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كذلك يشمل مجموعة كبيرة من النشاطات السلمية التي لا صلة لها مطلقاً بالإرهاب. في النتائج، يؤسس القانون لمرحلة قاتمة، وستجد الدولة متّسعاً قانونياً لقمع المعارضة وإخمادها في المهد.
من جهة أخرى، يندرج القانون في سياق تآكل صلاحيات وزارة الداخلية، منذ إعفاء رجلها القوي محمد بن نايف في حزيران الماضي، ونقلها إلى النيابة العامة و«رئاسة أمن الدولة» اللذين تشكلا حديثاً وهما مرتبطتان مباشرة بالملك.
خريطة تغييرات ابن سلمان ليست محلية الطابع، بل ثمة امتدادات لها في الخارج أيضاً، فهو يطمح إلى «هندسة» الدور المحوري للمملكة السعودية في الإقليم وفي العالم بأسره. ليس مهماً ما تؤول إليه النتائج، ولكنها «المبادرة» مهما كلّف الأمر. في مبادرات ابن سلمان لا مكان لاستراتيجية خروج «exit strategy»، فالحروب التي يخوضها، عسكرية كانت أو دبلوماسية، مصمّمة وفق المثل الشعبي الخليجي «عويشة، ما تدري فيها ولا في الخيشة»، وعويشة اسم امرأة والخيشة هو الكيس الذي يستخدم لتعبئة الأرز والشعير، والمعنى هو الغباء حيث إن المصاب لا يعرف إذا كانت المصيبة أصابته أو لم تصبه، ومضرب المثل هو الغفلة وعدم المبالاة. جردة للمغامرات التي خاضها ابن سلمان تزيد في التوضيح: الحرب على اليمن التي دخلت عامها الثالث ومن دون أفق سوى القتل، والدمار، والحصار، والمرض، والجوع، والأزمة مع قطر التي توهّم ابن سلمان ومن شايعه خليجياً وأميركياً بأن حسمها خاطف فأحدثت من الانقسامات الخليجية ما لم تشهده من ذي قبل، وحقّقت نتائج عكسية فانحازت قطر إلى إيران وتركيا، وزرعت ألغاماً في حقل العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وجيرانها بل وخارج الإقليم، وجاء فصل استقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري صاعقاً لدى الحلفاء والأصدقاء، ودفعهم لإعادة تقييم العلاقة مع الرياض في ظل قيادة ولي العهد الحالي. وأخيراً، وليس آخراً، الخنوع الفاضح للموقف الأميركي في إعلان القدس عاصمة أبدية للكيان الإسرائيلي، الذي انعكس غضباً شعبياً في أكثر من بلد عربي.
في حقيقة الأمر، نحن أمام صورتين متنافرتين: محلياً يجري تعميم صورة لابن سلمان بكونه نصير المرأة والشباب، ومبيد الفاسدين، وفي الخارج، على الضد، ثمة صورة مناقضة اشتغلت على تعميمها الصحف الأميركية والأوروبية، على وقع التضارب بين اتجاهات الإدارة الأميركية: البيت الأبيض من جهة ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والخارجية من جهة ثانية. أخبار شراء محمد بن سلمان للوحة «دافينشي» بقيمة 453 مليون دولار ثم قصر لويس الرابع عشر بالقرب من باريس بقيمة 300 مليون دولار التي نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» لم تكن «سبقاً» بالمعنى الصحفي، بل تظهيراً لتجاذب الإدارة مع باقي الأجهزة.
فيصل بن فرحان، كبير مستشاري السفارة السعودية في واشنطن، كتب تغريدة على «تويتر» في 16 كانون الأول الجاري ينتقد فيها تركيز صحيفة «نيويورك تايمز» على الأخبار السلبية عن المملكة ومحمد بن سلمان، ولا سيما بعد نشر خبر شراء القصر في فرنسا. كشف فرحان عن طلب خالد بن سلمان، السفير السعودي في واشنطن وشقيق ولي العهد، نشر مقالة في الصحيفة فاعتذرت، وقالت إن مقال توماس فريدمان كان إيجابياً جداً، وردّت بالنص: «ألم يكفِكم مقال فريدمان؟».
لا يبدو أن المستشار مدرك تماماً لطبيعة الصورة التي خلقها ابن سلمان عن نفسه في الخارج، وهي منسوجة بخيوط المغامرات التي خاضها محلياً وخارجياً. فالأمير يغيّر كل شيء، ولكن إلى المجهول.