السلام بالقوة... هذا جوهر استراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة التي أعلنها دونالد ترامب.التعبير نفسه يحمل نزعة عسكرية صريحة باسم حفظ السلام والاستقرار وردع أي تهديد لمصالح الولايات المتحدة والنهوض بأدوارها حول العالم، كما أنه يومئ لمحاولة جر العلاقات الدولية إلى حرب باردة جديدة يضعها على حافة النار. بالتعريف، فإن البحث عن السلام لا يمكن تحقيقه بالقوة المجردة من أي غطاء أخلاقي وسياسي، أو أي اعتبار للقانون الدولي ومصالح الدول الأخرى وإراداتها. التغول بالقوة مشروع صدامات مفتوحة لا تؤسس لأي سلام.

توازنات القوة الراهنة لا تسمح بتعميم شعار «أميركا أولاً» على العالم بأسره، أو اعتباره أساساً لأي استراتيجية فعالة. وقد سخرت «الميديا الأميركية» من استراتيجية ترامب واعتبرتها ولدت ميتة. فللقوة حدود، وللسلام قواعده. خلط المفاهيم تعبير عن ذهنية شعبوية مشوّشة تتصور أن العالم كان في عطلة لنحو ثلاثة عقود منذ سقوط حائط برلين ونهاية الحرب الباردة، وأن العطلة انتهت الآن دون إدراك الحقائق الجديدة التي تلت تلك الحرب.
من تلك الحقائق أن روسيا ليست الاتحاد السوفياتي السابق، فلا هي تتزعم معسكراً اشتراكياً واسعاً له حلف عسكري مشترك، ولا أحجام تأثيرها في العلاقات الدولية تقارب ما كان لها من قبل، لكنها تحاول بتخطيط وكفاءة أن تلعب أدواراً محورية في كثير من الأزمات المشتعلة، وخاصة في الشرق الأوسط، وفق متطلبات ومصالح أمنها القومي بلا غطاء أيديولوجي. ومن تلك الحقائق أن الصين الصاعدة كعملاق جديد يصعب نسبة خياراتها الاقتصادية الحالية إلى الإرث الفكري لمؤسس دولتها الحديثة ماو تسي تونغ، فما يتبع الآن «اقتصاد سوق اجتماعي» و«رأسمالية دولة».
في الوقت نفسه، تراجعت مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي رغم أنها بقيت على رأسه. لم تعد قطباً وحيداً، فقد نزعت بعض المراكز الدولية بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب الباردة إلى استعادة بعض ما خسرته مثل روسيا، أو اكتساب ثقل اقتصادي مثل الصين والهند ودول آسيوية ولاتينية أخرى يرشحها للعب أدوار سياسية كبرى في المستقبل القريب. ورغم أزمات الاتحاد الأوروبي، إلا أن هناك نزعة داخله لا يستهان بها للخروج من العباءة الأميركية. الصين وروسيا منافستان للولايات المتحدة، هذا مؤكد، لكنهما ليستا غريمتين ــ كما قالت استراتيجية ترامب.
استدعاء الحرب الباردة بغير أسبابها وظروفها وبيئتها صدام مع الزمن وحركة التفاعلات الدولية التي تبحث عن نظام جديد أكثر تعدداً وأقل استقطاباً. بحقائق موازين وأحجام القوة العسكرية والاقتصادية يصعب الاستهانة بروسيا والصين والخطوط الحمر النووية سوف تكون مشرعة أمام أي تهور عسكري في مناطق نفوذهما، وخاصة كوريا الشمالية. بتعقيدات دولية وإقليمية، يصعب الإقدام على أي عمل عسكري ضد إيران، أو إلغاء الاتفاق النووي معها، رغم التهديد والتحريض الذي ورد في الاستراتيجية الأميركية الجديدة. ذلك التحريض تزكّيه إسرائيل والسعودية بدرجتين متقاربتين، حتى إن الأخيرة أنتجت فيلماً تخيّلياً قصيراً عن احتلال طهران، فيما يقود العمليات وليّ عهدها محمد بن سلمان من فوق مكتب! وبتعقيدات دولية وإقليمية لها طابع آخر، يستحيل وضع تركيا على قائمة المستهدفين بسلام القوة، رغم أزماتها المتصاعدة مع الإدارة الأميركية الحالية. يبقى العالم العربي ــ كما هي العادة ــ الميدان المنتظر للتجريب، كأنه ضرب نار حتى تكون الرسالة مروعة وواصلة لكل من يعنيهم الأمر.
بنص الاستراتيجية، فإنها تسعى إلى إعادة صياغة الأولويات الأميركية في الشرق الأوسط «حتى لا يشكل ملاذاً آمناً للإرهابيين، أو تسيطر عليه قوة معادية للولايات المتحدة ضماناً لسوق نفط عالمي مستقر». كما هو معتاد في النظرة التقليدية للشرق الأوسط، فإن الأولويات الأميركية: النفط وإسرائيل. بالنسبة إلى النفط، فالخيار صريح بابتزاز دول الخليج ونهب ثرواتها ــ تكفي نظرة واحدة على الإدارة الأميركية للأزمة الخليجية وكيف استثمرتها في كسب صفقات اقتصادية وعسكرية بمئات مليارات الدولارات. وبالنسبة إلى إسرائيل، فهي «ليست سبب مشكلات المنطقة».
من يتحمل المسؤولية؟ الطرف الأضعف والمستضعف، العرب أنفسهم.
اللافت ــ هنا ــ أن الوثيقة الأميركية، فيما أكدت التزامها بـ«تسهيل اتفاق شامل يقبله الفلسطينيون والإسرائيليون» لم تشر من قريب أو بعيد إلى «حل الدولتين».
المقصود بـ«التسهيل» تمرير السلام بالقوة حتى يكسب طرف كل شيء، ويخسر آخر كل شيء بما في ذلك احترامه لنفسه. وقد كان مثيراً بصورة لا تصدق أن تصف المندوبة الأميركية في مجلس الأمن نيكي هيلي مشروع القرار المصري المتعلق بوضع القدس بأنه «يعيق السلام»، كأن العصف بالحقوق العربية والفلسطينية والاستهتار بإنسانيتهم موضوع ذلك النوع من السلام. هكذا جرى استخدام الفيتو الأميركي ــ كما كان متوقعاً ومنتظراً ــ ضد بقية أعضاء مجلس الأمن الأربعة عشر باسم السلام! وهكذا جرى اتهام المنظمة الدولية كلها بالتحيّز ضد إسرائيل، كأنها مجنى عليها، بينما الضحايا الحقيقيون يسقطون أمام الكاميرات بآلة حرب متوحشة في القدس وكل الأراضي الفلسطينية المحتلة. التضامن الدولي الواسع مع قضية القدس، بكل أشكاله الشعبية والدبلوماسية، يقول إننا لسنا وحدنا ولا ضعفاء إلى هذا الحد، الذي تتصوره إدارة ترامب من فرط تخاذل بعض الأنظمة العربية وهرولتها للتطبيع المجاني. الصلابة التي أبدتها الانتفاضة الفلسطينية الثالثة حتى الآن تقول إن للقضية أصحابها المستعدين للاستشهاد في سبيلها، وهذه علامة قوة، فيما يبدو المحتل ضعيفاً أمام فتاة تواجه آلته العسكرية بلا وجل. وتأجيل زيارة مايك بنس، نائب ترامب، للشرق الأوسط لأكثر من ثلاثة أسابيع دليل آخر على أننا رغم كل شيء لسنا ضعفاء إلى هذا الحد.
كانت أجندة الإدارة الأميركية في مجلس الشيوخ معروفة حين تقرر إيفاد نائب الرئيس إلى مصر والأردن والسلطة الفلسطينية وإسرائيل بخطاب ترامب، الذي اعترف فيه بالقدس عاصمة لإسرائيل بالمخالفة لكل القرارات والقوانين الدولية.
برفض السلطة الفلسطينية استقباله، واعتذار الأزهر والكنيسة القبطية بدورهما عن أي لقاء معه، بدت الزيارة الآن لا قيمة لها ولا أثر يترتب عليها في خفض مستوى الأزمة الشعبية العربية مع الإدارة الأميركية.
كما أن الفيتو الأميركي منفرداً في مجلس الأمن وهزيمته الأخلاقية والسياسية في المنظمة الدولية أضفيا على زيارة «السلام بالقوة» نوعاً من العبثية وتحدياً للمشاعر العامة. بالقوة الأدبية للجمعية العامة للأمم المتحدة، من حق الشعب الفلسطيني أن يقرر مصيره. وبقوة العمل الشعبي الملهم للانتفاضة الفلسطينية ومظاهر التضامن العربي والإنساني معها تتأكد واحدة من أهم الحقائق في التاريخ من أن الحق فوق القوة وأن القضايا العادلة تكسب بحجم تضحيات أصحابها وقدرتهم على أن يثبتوا أمام أنفسهم والآخرين أن سلام القوة لا محل له ولا اعتبار.
صفقة القرن ليست قدراً، ولا ضياع القدس مسألة مفروغ منها، لا هم أقوياء ولا نحن ضعفاء إلى هذا الحد.
* كاتب وصحافي مصري