عمان | ظهر المفوض العام لـ«وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى» (الأونروا)، بيير كرينبول، في فيديو تم بثه في الحادي عشر من الشهر الجاري، وهو يقف أمام مركز صحي تابع للوكالة في القدس المحتلة. كرينبول، الذي قرأ بياناً ابتدأه بالحديث عن ارتفاع مستوى التوتر والقلق مرة أخرى في منطقة الشرق الأوسط، في إشارة إلى تبعات إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القدس «عاصمة لإسرائيل»، وجّه خطابه إلى «لاجئي فلسطين»، مطمئناً إياهم إلى أن «الأونروا أكثر تصميماً من أي وقت مضى على حماية حقوقهم وتلبية احتياجاتهم».
والبيان، الذي يمكن قراءته على موقع «الأونروا» الإلكتروني، يشير إلى الظروف المالية الصعبة التي تمر بها مع وجود عجز يقدّر بـ 49 مليون دولار «للمدة المتبقية من هذا العام»، أي 2017. وبينما لم يشر إلى أي عجز سابق، بدا غريباً الحديث عن العام الجاري حصراً، من دون الإشارة إلى العام المقبل المفترض أنه أكثر صعوبة، وخاصة وسط تهديدات واشنطن لمجمل مؤسسات الأمم المتحدة، وكون «الأونروا» أول المستهدفين في أي عقوبات أميركية بحق الفلسطينيين. لندقق في ما قاله كرينبول أكثر: «إنني أعلن اليوم أن خدمات الأونروا ــ هنا في القدس الشرقية، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن وسوريا ولبنان ــ سوف تستمر دون انقطاع في عام 2017»!
أيضاً، أوضح الرجل «بكل شفافية» أنه مدرك لـ«المخاوف العميقة لدى اللاجئين وموظفي الأونروا حيال تعطّل خدماتها»، كما نوّه بوصف الأمم المتحدة في وقت سابق من هذا العام دور وكالة الغوث بأنه «لا غنى عنه»، ثم ينتهي البيان المقتضب بنفي أن يكون وقوف الوكالة إلى جانب اللاجئين عملاً خيرياً، بل «خدمات نابعة من الاحترام لهم ولحقوقهم».
لكن، لماذا يظهر كرينبول كأنه يدافع عن وجود الوكالة التي تمر كما تقول بمأزق مالي يستدعي وضع فقرة بعنوان «معلومة عامة» على كل صفحة من صفحات موقعها من أجل الإشارة إلى هذه الضائقة؟ المتتبع لشؤونَ «الأونروا» على مدار سنوات يلحظ تراجعاً في خدماتها، وهو ما يصفه المنتفعون من برامجها بالتنصل من دورها الذي وجدت من أجله. هذا النقاش ليس جديداً، وهو حاضر لارتباطه الوثيق بالبعد السياسي للقضية الفلسطينية، المتعلق بحق العودة والضغط الضمني باتجاه الحلول التوطينية للاجئين والنازحين بعد عقد معاهدات مع إسرائيل، وبعبارة أخرى: القضية الثانية الأكثر أهمية بعد القدس ــ على جدول الأعمال الإسرائيلي والأميركي ــ ويجب حلها هي مشكلة اللاجئين.

تجنّب المفوض العام لـ«الأونروا» ذكر تفاصيل مالية عن عام 2018


من البداية، لم تكن الأمم المتحدة نفسها بريئة من هذا الهدف، وذلك يظهر مثلاً في الفقرة (ج) من المادة ٨ في معاهدة «وادي عربة» بين النظام الأردني والعدو الإسرائيلي، التي تتحدث صراحة عن توطين اللاجئين والنازحين عبر «تطبيق برامج الأمم المتحدة المتعلقة بهم». وبهذا، تكون الأمم المتحدة شريكاً في التسوية برغبة حقيقية في حل مشكلة اللاجئين كيفما تأتّى، إذ إن العامل الحاسم الأقوى والمؤثر هو العامل السياسي والمالي في أروقتها، ويمكن الانتباه إلى الخطاب الأميركي الأخير في هذا الشأن جيداً.

بين «الأونروا» وUNHCR

تفاعلت جمعية الأمم المتحدة مع اللاجئين الفلسطينيين بتأسيس «الأونروا» بموجب القرار الرقم 302 (رابعاً) الصادر في 8 كانون الأول 1949، وبدأت عملياتها عام 1950 في مناطق وجود اللاجئين، وبذلك تكون وكالة الغوث قد ظهرت إلى العلن بعد سبعة أشهر من اعتراف جمعية الأمم بـ«إسرائيل» (11 أيار 1949) وهو ما أدى إلى تصنيف من خرجوا من بيوتهم وقراهم ما بين لاجئين ونازحين.
بالتوازي مع البرنامج الخاص بالفلسطينيين للاجئين في الأمم المتحدة، أنشئ عام 1950 برنامج آخر «عالمي» باسم «المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين» (UNHCR)، التي باشرت عملها في العام التالي متخصصة فقط باللاجئين الأوروبيين، لكنها شملت في ما بعد اللاجئين خارج أوروبا أيضاً.
لهذه المفوضية دليل للإجراءات والمعايير الواجب تطبيقها لتحديد وضع اللاجئ بمقتضى اتفاقية 1951 وبروتوكول 1967، ومن ثم هناك تعريف قانوني للاجئ ومعايير حتى تشمله خدمات UNHCR، وكذلك أسباب استبعاده منها واستثناؤه. ومن البداية، استبعد من خدماتها «اللاجئون من فلسطين» استناداً إلى الفقرة الأولى من المادة (1 د) في الاتفاقية، التي تستثني كل من يتمتعون بحماية أو مساعدة من هيئات أو وكالات تابعة للأمم المتحدة، أي أن هذه المفوضية لا تقدم خدماتها للفلسطينيين في المناطق الخمس التي تعمل فيها «الأونروا» (الأردن، سوريا، لبنان، فلسطين المحتلة 1967 وقطاع غزة)، لكنها شملت مثلاً الفلسطينيين في العراق الذين لجأوا بعد الحرب عام 2003 إلى الأردن، ومنها إلى بلدان عدة مثل البرازيل وكندا ونيوزيلندا، ولم يكونوا مشمولين بخدمات «الأونروا» سابقاً.
لذلك، تطرح الوثيقة الخاصة بالتوجيهات والإرشادات الجديدة، التي نشرت في الشهر الجاري من دون أن يثار حولها ضجة أو أن يلتفت إليها أحد، العديد من التساؤلات، وأهمها: هل كان بيان كرينبول مرتبطاً بتوجهات «المفوضية السامية» الساعية إلى «شمول منتفعي وكالة الغوث» في برنامجها، ومعنى ذلك بالنسبة إلى استمرار «الأونروا».

الخطة البديلة

الجديد في موضوع العلاقة بين UNHCR و«الأونروا» هو شمول منتفعي الأخيرة من الفلسطينيين بخدمات الأولى، لكن «بشروط» توضحها الوثيقة التي تحمل الرقم HCR/GIP/17/13، وتتضمن إرشادات وتوجهات توضيحية بخصوص المادة (1 د) من اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين القانوني
وتطبيق ذلك على اللاجئين الفلسطينيين في أماكن عمل «الأونروا» وخارجها.
تتناول الوثيقة المنشورة في 20 صفحة بالتحليل والتمحيص المادة المثيرة للجدل (1 د) التي تستثني منتفعي «الأونروا»، لكن خطورتها تكمن في فقرتها الثانية التي تتيح الانتفاع من برامج UNHCR في حال «توقف الحماية والمساعدة من أي هيئة أو وكالة أخرى تابعة للأمم المتحدة»، أي «الأونروا» في حالة اللاجئين الفلسطينيين، وهي تشرح ذلك للموظفين الأمميين وكذلك للجمهور.
الوثيقة بلغتها القانونية تظهر كأنها تتحدث عن عمل تكاملي يشدد على منع ازدواجية الحصول على الخدمات من أذرع الأمم المتحدة المختصة باللاجئين، كما تبيّن في بندها الثامن المتعلق بنطاق الأفراد المستثنين من المادة (1 د) من اتفاقية 1951 من هم الفلسطينيون غير المشمولين بخدمات المفوضية، وهم: «اللاجئون من فلسطين» عام 1948، و«المشرّدون» من ديارهم عام 1967، وذريتهم.

تحويل ملف اللاجئين إلى «المفوضية السامية» يعني إنهاء حق العودة


لكن، في البند الثاني والعشرين تعرض الأسباب الموضوعية التي تخولهم الاستفادة من «المفوضية السامية» وبرامجها، ومن أبرز الأسباب: إنهاء ولاية «الأونروا» بموجب قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو عجز «الأونروا» عن القيام بالمهمات التي وجدت من أجلها، وذلك في إقرار رسمي بأن حالة العجز المالي لـ«وكالة الغوث» تؤدي إلى نتيجة مشابهة لانتهاء ولايتها!
قد يقول قائل: وما الضير من إنهاء خدمات «الأونروا» وهي تكابد لجمع التبرعات ومستوى خدماتها في تراجع مستمر، أو أن من الأفضل التعامل دولياً مع قضية اللاجئين عبر جهة واحدة تابعة للأمم المتحدة كـ«المفوضية السامية» وخاصة أن مظلتها واسعة وأماكن عملها أكثر؟ هذه أسئلة بريئة في ظاهرها، لكنها تستدعي التأمل في اتفاقية 1951 وبروتوكول 1967 وربط ذلك بجوهر المسألة وهو سبب اللجوء، إذا كان من يبحث قد أخذ بالاعتبار أن ما حدث في فلسطين هو احتلال وليس نزاعاً أو حرباً أهلية.
قانونياً، يختلف تعريف اللاجئ عند الطرفين، فـ«الأونروا» تذكر صراحة الحرب العربية ــ الإسرائيلية، وتحدد اللاجئين بالأشخاص الذين كانت فلسطين مكان إقامتهم ما بين عامي 1946 و1948 وفقدوا بيوتهم ومورد رزقهم إثر الحرب عام 1948، وعرّفت النازحين، سواء كانوا لاجئين أو غير لاجئين، بعد احتلال إسرائيل القدس والضفة وغزة عام 1967. أما UNHCR، فتحصر اللاجئ بمن «خرج من الحدود الدولية للبلد الذي يحمل جنسيته وتعرّض للاضطهاد ولم يعد يتمتع بحماية حكومته». ومن ناحية أخرى، لا تسعى بدورها إلى معالجة الأسباب الجذرية للجوء، بل الى التخفيف من نتائجها، على خلاف «الأونروا» التي تعترف بحق العودة، بل تمثل بوجودها أهم الشواهد على الاحتلال الإسرائيلي وآثاره.
من زاوية أخرى، تقدّم «المفوضية السامية» حلولها لمشكلة اللاجئين بما يأتي: العودة الطوعية إلى البلد الأصلي (غير وارد في الحالة الفلسطينية لأنه «لا بلد» أصلياً للاجئين عام 1948 بعد اعتراف الأمم المتحدة بإسرائيل عام 1949)، أو التوطين في بلد اللجوء (هنا يخرج اللاجئ من نطاق خدمات المفوضية في حال حصوله على جنسية بلد يستطيع حمايته، وهذا الحل يسقط حق العودة لكل الفلسطينيين في الأردن ممن يحملون أرقاماً وطنية تثبت أردنيتهم. ووفق تقرير «الأونروا» لعام 2017، يمثل هؤلاء 41% من أعداد اللاجئين المسجلين لديها)، والحل الأخير توطين اللاجئين في بلد ثالث، أي أن المفوضية ستعمل كوكيل توطين (كما حدث مع الفلسطينيين في العراق واللاجئين القادمين من سوريا بعد الحرب إلى الأردن، ثم حصولهم على لجوء في دول أوروبية وكندا).
في المحصلة، إن سياسة «الأونروا» والانسحاب التدريجي من مهماتها، والقوانين التي فرضتها على موظفيها لتفريغ عمل الوكالة من بعده السياسي كمبدأ الحيادية المعمول به أخيراً، كله يثبت أنها شريكة لما سيحدث لاحقاً. وبالحد الأدنى، يدرك القائمون عليها ما يحاك تجاه القضية الفلسطينية، وخاصة في ملف حق العودة واللاجئين، وليس هناك أدهى من التلاعب بأرقام المسجلين لديها وإظهارها بصورة ضبابية. أيضاً، لا شيء يبدو بخِسّة ملاحظة صغيرة تظهر في تقرير «الأونروا» عن عام 2017 تشير إلى أن البيانات التي تحتوي أعداد المسجلين لديها لا تمثل بيانات ديموغرافية صالحة إحصائياً. فإذا كانت «الأونروا» لا تعرف الأعداد الصحيحة للاجئين والنازحين والأجيال التي تلت، فمن يعرف؟





«الحل الإسرائيلي» المفضّل


إذا انتهى العمل على قضية اللاجئين فعلياً عبر «الأونروا»، فليس مستغرباً أن يتولى مثلاً مكتب «المفوضية السامية لشؤون اللاجئين» في إسرائيل ملف اللاجئين في الضفة المحتلة وقطاع غزة بصفته أقرب مكتب لمكان وجودهم، ثم سيبحث لهم عن أحد الحلول الثلاثة المذكورة: العودة الطوعية إلى البلد الأصلي، التوطين في بلد اللجوء والتوطين في بلد ثالث.
وبما أن الحل الأول مستثنى، كما أن إسرائيل لا ترغب في توطينهم في بلد اللجوء (أراضي السلطة الفلسطينية في الضفة غير المبتوت بحدودها والواقعة تحت سيطرة الاحتلال نفسه)، سيبقى الحل الأوفر حظاً هو توطينهم في بلد ثالث، في تكريس للترانسفير بنكهة دولية خالصة.
وإن لم يكن هذا الحل من نصيب غزة والضفة على وجه أكثر تحديداً، فإنه قد يكون من نصيب مئات الآلاف من سكان القدس وضواحيها. ومن المهم التذكير بأن مكتب UNHCR في تل أبيب تعامل مع 27.500 أريتيري و7.800 سوداني في إسرائيل، بصورة شبيهة، بعدما لم تعترف السلطات الإسرائيلية إلا بثمانية أريتيريين وسودانيين كلاجئين، فيما حصل 200 سوداني آخر من دارفور على «وضع إنساني»!