ثمة إجماع في الأوساط الدبلوماسية في مصر على أن العلاقات مع الجوار الإفريقي باتت تمثّل تحدّياً حساساً، في ظل الخلافات السائدة أصلاً حول ملفات قديمة - جديدة، عززها دخول اللاعب التركي على خط التموضعات الإفريقية، المنخرطة فيها جهات أخرى، بما في ذلك إسرائيل ودول الخليج، وهو ما تبدّى في ارتفاع منسوب التوتر الإقليمي، غداة الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس رجب طيب أردوغان للخرطوم.
على هذا الأساس، باتت مصر أمام سلسلة تحرّكات متزامنة ومتعدّدة الأبعاد والخطوط، تتمحور عموماً حول تصعيد سوداني ضدها وضد إريتريا في آن واحد، وتعثر التفاهمات بين مصر وإثيوبيا حول ملف «سد النهضة» بما يعنيه ذلك من مخاطر على الأمن المائي المصري الذي يقترب من بلوغ الخط الأحمر، إن لم يكن قد لامسه بالفعل.
ولعلّ ما سبق يجعل الكثيرين متريّبين إزاء احتمال دخول المنطقة الممتدة من القرن الإفريقي إلى وادي النيل في معركة محاور باتت ملامحها واضحة، من خلال التعارض في المصالح الجيوسياسية على خط مصر ــ إريتريا والسودان ـــ إثيوبيا.
ولا يحتاج الأمر إلى كثير من البحث للتعرف إلى أسباب الاندفاعة التصعيدية الأخيرة، التي استدار فيها الرئيس عمر البشير مجدداً، في خيارته الإقليمية، باتجاه اللاعب التركي الذي اقتحم المشهد الإفريقي منذ بداية «الربيع العربي»، من بوابة شمال إفريقيا، قبل أن يستكمل ما يشبه «خطة الكماشة» من بوابة القرن الإفريقي، بعد سلسلة إخفاقات طوال السنوات الماضية، سواء في مصر أو بدرجة أقل في ليبيا.
انطلاقاً من هذا التحرّك التركي المستميت باتجاه القارة الإفريقية، يمكن فهم الانعطافة الثانية للرئيس السوداني - بعد الانعطافة الأولى التي تكرست قبل نحو عامين بنقل البندقية من الكتف الإيراني إلى الكتف السعودي - والتي جعلته يرتدي بزته العسكرية، ويخرج بتصريحات نارية، حذّر فيها من أن بلاده مستعدة لصدّ ما وصفه بـ«عدوان المتربصين والمتآمرين والمتمردين».
وبالرغم من أن البشير لم يحدد من يعنيه بتهديده، إلا أن آلته السياسية/ الإعلامية تولت المهمة نيابة عنه، إذ وجهت أصابع الاتهام في ذلك إلى مصر واريتريا.
آخر تلك الاتهامات جاء من قبل «حزب المؤتمر الشعبي» الذي تحدث عن تلقيه «معلومة مؤكدة» بشأن وجود مصري، ومتمردين إثيوبيين، وحركات مسلحة سودانية في الجانب الإريتري من الحدود مع السودان.

الصراع المصري
الإثيوبي يتخذ منحىً أكثر استراتيجية

وفي تصعيد للموقف، أغلقت الخرطوم الأسبوع الماضي المعابر الحدودية مع إريتريا، ثم أرسلت تعزيزات عسكرية إلى ولاية كسلا في شرق البلاد، في خطوة عزاها مساعد الرئيس السوداني إبراهيم محمود إلى تهديدات أمنية من الجارتين مصر وإريتريا، بعد رصد تحركات عسكرية للدولتين في منطقة ساوا المتاخمة لكسلا.
وفي موازاة ذلك، عمد السودان مجدداً إلى تحريك الخلاف الحدودي مع مصر بشأن مثلث حلايب وشلاتين، وهي خطوة لطالما نظرت إليها مصر باعتبارها تصعيداً روتينياً، للتغطية على مشاكل داخلية. وبالرغم من أن تلك النظرة تنطبق على التصعيد السوداني بشأن حلايب وشلاتين، في ظل ما تشهده الخرطوم ومدن أخرى من تحركات شعبية احتجاجاً على الأوضاع المعيشية المتردّية، إلا أنها تتخذ منحىً آخر في ظل الاشتباك الإقليمي الذي بدأ يتكون منذ زيارة أردوغان الأخيرة.
هذا التصعيد السوداني، يوازيه تصعيد آخر من قبل إثيوبيا التي تشهد علاقاتها مع كل من مصر وإريتريا توتراً بدرجات متفاوتة منذ فترة طويلة.
ويمكن النظر إلى الصراع الإريتري ــ الإثيوبي من منظار تاريخي، فدولة إريتريا، الواقعة عند سواحل البحر الأحمر عند مضيق باب المندب، تشكلت أصلاً بالانفصال عن إثيوبيا في مطلع التسعينيات بعد حرب استمرت ثلاثة عقود من أجل الاستقلال.
وأما الصراع المصري ــ الإثيوبي، فيتخذ منحىً أكثر استراتيجية، وعنوانه العريض «سد النهضة» الذي ترى فيه القاهرة تهديداً خطيراً لأمنها القومي، في ظل التشدد الذي تبديه أديس أبابا إزاء التفاهمات بشأن الشروط الفنية لملء خزان هذا السد المائي الضخم.
وكان قادة مصر والسودان وإثيوبيا قد وقعوا في آذار عام 2015 اتفاق مبادئ يلزمهم بالتوصل إلى توافق من خلال التعاون في ما يتعلق بـ«سد النهضة»، ولكن المفاوضات في هذا الشأن اصطدمت بعراقيل عدة، خرج على أثرها وزير الري المصري محمد عبد العاطي، ليعلن في تشرين الثاني الماضي فشل مفاوضات اللجنة الفنية الثلاثية في التوصل إلى اتفاق بخصوص نتائج تقرير مبدئي قدمته شركتان فرنسيتان في أيار الماضي حول التبعات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية للسدّ على دول المصبّ.
وما زاد حدة التوتر، أن وسائل إعلام إثيوبية نشرت معلومات مفادها أن القاهرة طلبت من أديس أبابا، الشهر الماضي، استبعاد السودان من مفاوضات «سدّ النهضة»، بحيث تتحول المفاوضات من ثلاثية إلى ثنائية. وبالرغم من أن وزارة الخارجية المصري نفت بشدة هذا الأمر، إلا أن نظيرتها السودانية اتخذت خطوة تصعيدية جديدة، قبل أيام، حين سحبت سفيرها من مصر للتشاور.
وفي ظل هذا التوتر الجديد، المتعدد الأوجه، ثمة من نظر إلى الزيارة التي قام بها الرئيس الاريتري أسياس أفورقي إلى القاهرة، قبل أيام، حيث التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي، باعتبارها مؤشراً على بداية تشكل محورين إقليميين، خصوصاً أن السودان وإثيوبيا مرتبطان عملياً بتحالف وثيق، ضد خصمين/ عدويّن مشتركين.
ومع ذلك، فإنّ ثمة وجهة نظر أخرى تقلّل من التداعيات الدراماتيكية لتلك التموضعات، منطلقة من حقيقتين، الأولى أن التحالف الإريتري ــ المصري ليس بالجديد، بل يعود إلى فترة قيام دولة إريتريا التي تزامنت مع بداية التوتر الإثيوبي - المصري في عهد الرئيس حسني مبارك، وكذلك الحال بالنسبة إلى التحالف السوداني - الإثيوبي. وأما الحقيقة الثانية، فتجد جذورها في نظريات العلوم السياسية التي نادراً ما تعاملت مع محاور تقوم على مجرّد خلافات بين الدول، إن لم تتوافر المصالح المشتركة، باعتبارها العمود الفقري لذلك، وهو أمر ليس متوافراً في الظروف الحالية التي تشهدها العلاقات الشائكة بين الدول الأربع المذكورة.
ولعل وجهة النظر الأخيرة تبدو الأقرب إلى الواقع، وقد تعززها بعض المواقف والتحركات التي برزت في خضم الأزمة القائمة.
أبرز تلك المواقف تأكيد الرئيس السيسي، أمس، أن مصر «لن تحارب أشقاءها»، وأن سياسة بلاده ثابتة والهدف منها «البناء والتنمية والتعمير».
وعلى نحو أكثر مباشرة، بدت رسالة السيسي حاسمة في تشديدها «للأشقاء في السودان وإثيوبيا» على أنّ «مصر لا تتآمر ولا تتدخل في شؤون أحد» وأنها حريصة على «علاقات طيبة» معهم.
وعلى مستوى آخر، بات لافتاً للانتباه إعلان السيسي إنشاء محطة كبرى لمعالجة مياه الصرف، تجنباً لأزمة قد تطرأ في المستقبل، في إشارة إلى احتمال تأثير سدّ النهضة في إثيوبيا بحصة مصر من مياه نهر النيل، في خطوة تستهدف على ما يبدو مواجهة أسوأ السيناريوهات المرتبطة بالأمن المائي المصري، ما يعني، بشكل أو بآخر، دفع الأزمة الحالية بعيداً، ولو بمسافات صغيرة، عن الخط الأحمر.
وفي موازاة ذلك، أعلنت وزارة الخارجية الإثيوبية، أمس، أن الاجتماع السادس للجنة الإثيوبية المصرية المشتركة، سيعقد الأسبوع الحالي في القاهرة، مشيرة إلى أن رئيس الوزراء الإثيوبي هيلي ماريام ديسالين، سيرأس وفد بلاده في هذا الاجتماع، من دون تحديد موعد دقيق، وهي خطوة من شأنها أن تبرّد الموقف.
انطلاقاً من ذلك، تبدو الأطراف مستعدة لتبريد الموقف، ولو مؤقتاً، وهو ما قد يسهّل التوصل إلى تفاهمات تجنب الدول المعنية صراعاً إقليمياً مباشراً، أو على الأقل تأجيل ذلك الصراع إلى أن ترتسم معالم التموضعات بشكل أوضح، على نحو يتجاوز الدول الأربع نفسها، مع دخول إفريقيا عموماً، وحوض النيل خصوصاً، في دائرة الصراعات الدولية الأكثر خطورة.