غياب أي تنافس له صفة الجدية في الانتخابات الرئاسية المصرية هو أكثر التطورات خطورة وسلبية منذ ثورة ٢٥ يناير قبل سبع سنوات. بخروج مرشح إثر آخر من السباق الرئاسي، توشك الانتخابات أن تفقد روحها وصدقيتها واحترامها في مجتمعها وأمام العالم.بقدر توافر فرص التنافس والاختيار بين رجال وبرامج وتيارات، تكتسب أيّ انتخابات قدرتها على ضخ دماء جديدة في الشرعية.
هناك فارق جوهري بين شرعية الأمر الواقع والشرعية الدستورية.

الأولى، لا تؤسس لأوضاع طبيعية ومستقرة. والثانية، تتجدد بمقتضاها حيوية المجتمع وقدرته على التصحيح والتصويب في الخيارات والسياسات والأولويات بالاختيار الحر.
عندما تفتقد أيّ انتخابات تنافسيتها وتعدديتها، فهذا يناقض التعريف الدستوري لنظام الحكم ويلغي في الوقت نفسه أي كلام مفترض عن أي تداول سلمي ممكن بقواعد الاحتكام إلى صناديق الاقتراع.
وفق نص المادة الخامسة من الدستور، مصدر الشرعية: «يقوم النظام السياسي على أساس التعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي للسلطة…». تلك الأصول الدستورية لا يصح المجادلة فيها.
الأزمة الماثلة تتجاوز بكثير أسماء من خرجوا بوسائل مختلفة ولأسباب متباينة من السباق الرئاسي، إلى البيئة العامة التي تسدّ أي تقدم للتنافس بجدية.
غياب ذلك النوع من التنافس يعني العودة إلى الاستفتاءات بصورة صريحة كأن يترشح الرئيس الحالي وحده، أو مقنّعة كأن يواجهه مرشح رمزي قد يتوافر فيه نبل المقصد، لكن تعوزه أيّ قدرة على كسب السباق.
أمام تلك الأوضاع الحرجة: مصر إلى أين؟ السؤال لا يمكن تجنبه.
بقدر حجم الأزمة، يطرح السؤال نفسه بإلحاح. قبل ستة عشر عاماً، طرح السؤال لأول مرة ونظام حسني مبارك يوشك على الغروب، ولم يكن أحد يعرف متى؟ أو كيف؟
أرجو أن نتذكر ــ من باب العظة واستيعاب الدروس ــ أن الانتخابات البرلمانية عام ٢٠١٠، بما شابها من تزوير غير مسبوق، أنهت أي أمل بإصلاح النظام من الداخل ودفعت طاقة الغضب والاحتجاج إلى ثورة ٢٥ يناير من خارج السياق الرسمي والحزبي.
طُرح السؤال مرة أخرى بعد «يناير» أثناء الفترة الانتقالية التي أدارها المجلس العسكري، فلم تكن هناك خطة متماسكة ومقنعة للانتقال من عصر إلى عصر، ارتبكت الخطى بفداحة واختطفت الثورة في بداياتها.
أعاد السؤال طرح نفسه في فترة حكم جماعة «الإخوان» بصيغة جديدة: أي دولة نريد؟ وكان شبح «الدولة الدينية» يحوم في المكان.
ثم طرق أبواب القلق العام مرة جديدة خشية «الدولة البوليسية» وإعادة إنتاج الماضي، الذي ثار عليه شعبه.
رغم اختلاف الظروف والعهود، فإن تكرار السؤال يعني أن الأوضاع العامة في مصر لم تستقر على أيّ قواعد حديثة تضمن الانتقال مما هو مضطرب إلى ما هو مستقر، ما يزكي ارتفاع منسوب القلق العام أنه ليس هناك معارضة معروفة لها عنوان وبرامج.
الحياة الحزبية شبه معطلة، الأحزاب القديمة استهلكت بالكامل وفقدت صلاحيتها للاضطلاع بأدوار المعارضة، والأحزاب التي ظهرت بعد «يناير» جرفت ــ بانحسار ــ حيويتها إلى حدود بعيدة.
وقد أفضى إفقار الحياة الحزبية إلى تفريغ للحياة السياسية وتجفيف المجال العام، وكان ذلك فِعلاً مُمنهجاً تُدفع أثمانه الآن. في الوقت ذاته، فإنّ الصدام مع «يناير» والتشهير بالذين تصدروا مشاهدها، أفضى إلى نزف في الشرعية.
بالتعريف الدستوري، فإن « ثورة ٢٥ يناير ــ ٣٠ يونيو، فريدة بين الثورات الكبرى في تاريخ الإنسانية، بكثافة المشاركة الشعبية التي قدرت بعشرات الملايين وبدور بارز لشباب متطلع إلى مستقبل مشرق…».
كان ذلك الصدام ضرباً على جذر الشرعية، ولذلك عواقبه. هناك من تصوّر أن استباحة «يناير» تثبت الحاضر بينما كان يهدّد فيه. وقد كانت التسريبات عبر فضائيات لاتصالات هاتفية، يصون حرمتها الدستور، جريمة كاملة.
عندما جرى الصمت عليها، أصبحت الاستباحة قاعدة عامة، فكما تستبيح تستباح.
إذا لم يكن هناك دولة قانون، فكل احتمال وارد. بتفريغ السياسة من أدوارها، جرى التعويل على الأمن وحده. للأمن أدواره التي لا يستغني عنها أي مجتمع، لكن تلك الأدوار لا يجب أن تتعدى طبيعتها.
هذا وضع يفتقر إلى أي شرعية لها صلة بالدستور، أو العصر، أو إلى ما كانت تطمح إليه «يناير». وذلك أفقد الدولة أي إدارة لها قدر من الكفاءة والقدرة على التواصل والإقناع بالوسائل السياسية، كما أنه حمل الأمن فوق طاقته وأرهقه بما ليس من مهماته أثناء حرب ضارية مع الإرهاب.
النظرة الأمنية الضيقة سحبت من رصيد النظام على المفتوح وأسست ــ في الوقت نفسه ــ مراكز قوى جديدة وصلت إلى صراعات مفتوحة لم تعد خافية بين أجهزة الدولة، وهو وضع خطر آخر يضرب سلامة الدولة نفسها ويهددها وجودياً أكثر من أي توقع.
ضيق النظام أثّر بفداحة على صمامات الأمان التي تضمن سلامة المجتمع كله. من بين صمامات الأمان فتح القنوات السياسية والاجتماعية والإعلامية حتى تأخذ الحركة العامة طبيعتها واستقرارها وشرعيتها. ما هو طبيعي ومستقر وشرعي يُثبِّت الدولة ويضمن قدرتها على مواجهة الأزمات المستعصية. بهذا المعنى، فإنّ الشرعية الدستورية والانتخابات التنافسية من مقتضياتها، مسألة تتعلق مباشرة بتثبيت الدولة.
أي دولة نقصد: الدولة الديموقراطية المدنية الحديثة، دولة المؤسسات والقانون، التي تحترم حق مواطنيها في الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية... أم دولة تصادر الحق في الاختلاف والتنوع وحرية التعبير، فكل اعتراض مؤامرة، وكل نقد هدم؟
الدولة ــ بتعريفها الأول ــ تنتسب إلى «يناير» وتستند إلى الدستور وحقائق العصر. والدولة ــ بتعريفها الثاني ــ تناقض أي رهانات صاحبت «يناير» و«يونيو» قبل أن تتحطم تماماً.
ذات مرة، سأل الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، د. حازم الببلاوي، وهو رئيس حكومة ٣٠ يونيو، وكان (السيسي) نائبه الأول، عن رأيه في ترشحه للرئاسة. أجابه: «يا سيادة الفريق، إذا ترشحت فسوف تكتسح الانتخابات الرئاسية، ولكن مشاكلك تبدأ من اليوم الأول».
كان التراجع في الشعبية طبيعياً بالنظر إلى حجم المشاكل المتراكمة، لكن ما حدث تجاوز كل توقع بالانتقال من صورة إلى أخرى، من آمال كبرى إلى إحباطات عميقة.
بصورة أو بأخرى، فإن منافسيه الذين أُخرجوا من السباق الانتخابي واحداً إثر آخر، راهنوا على كسب ذلك السباق اعتماداً على نزف شعبيته قبل أي شيء آخر.
إلى أي حد تراجعت الشعبية؟... ولماذا بالتحديد؟... ثم ماذا بعد؟
لا يمكن في بلد مثل مصر يفتقد أي تقاليد لاستطلاعات رأي حرة ونزيهة، أن نقيس حجم النزف. لا يمكن قياس ما تراجع من شعبية إلا إذا كانت هناك انتخابات تنافسية لها صفة الجدية وتتوافر فيها شروط النزاهة والشفافية.
بغض النظر عن الظروف والملابسات، فإنّ الصورة العامة تبدو مزعجة للغاية. يكاد أن يستحيل تقبل انتخابات بلا منافسين جديين، أو العودة إلى الاستفتاءات، بصورة مكشوفة أو مقنّعة، كأن ثورة لم تقم في «يناير» طلباً للانتقال إلى دولة حديثة تلتحق بعصرها.
*كاتب وصحافي مصري