ليس من باب التكرار المملّ أن يعيد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، موقفه من كون القدس «عاصمة لإسرائيل»، فهو موقف متجدد يبدد أي محاولة تذاكٍ عبر الإيحاء بتفسيرات لا أساس واقعياً لها، ولا يقبل ترامب أن تُلصق به. ومن لم يفهم في المرة الأولى، أتى موقف نائبه مايك بنس من على منصة الكنيست بأن ما تريده الولايات المتحدة من الطرفين الفلسطيني والعربي ليس أقل من التسليم بالوقائع المفروضة في القدس والضفة.
ولمن لم يفهم أيضاً، أعلنها ترامب مجدداً خلال لقائه أمس مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في دافوس، قائلاً إن الولايات المتحدة «أزالت قضية القدس عن الطاولة».
رغم كل ذلك، الإيجابية الوحيدة التي تكمن في هذه المواقف المباشرة والصريحة هي أنها تكشف وهم الرهان على إمكانية التسوية مع العدو الإسرائيلي، على الساحة الفلسطينية، وتكشف بما لا لبس فيه أنه لم يعد هناك أرضية لتسوية «عادلة» (بمعايير أوسلو) على الساحة الفلسطينية، وأن ما عمدت إليه واشنطن هو تصفية القضية عبر تصفية ما كان يسمى قضايا أساسية عالقة منذ أكثر من عشرين سنة: القدس، واللاجئون والمستوطنات والحدود والترتيبات الأمنية... والمطلوب من الفلسطينيين والعرب التسليم بهذه الوقائع وشرعنتها.

من لم يفهم ترامب من أول مرة ثم بِنس، عليه أن يسمع كلام الأول في دافوس

من لوازم هذا التوجه أن طموحات الشعب الفلسطيني ينبغي أن تكون ــ وفق ترامب ونتنياهو ــ مسقوفة بالقرى والمدن الفلسطينية المطوقة بالمستوطنات، وأن الحكم الذاتي الذي كان يفترض ــ وفق أوسلو ــ أن يكون نقطة انطلاق وبداية لتحقيق طموح فلسطيني متواضع تبيّن عملياً أنه لم يكن إلا سقف النهاية. لكن ذلك لم ينكشف للبعض إلا بعد نحو ربع قرن من التسويف والترويج للآمال الكاذبة على تواضعها.
في ضوء ذلك، بات من الواضح أن أي عودة أو دعوة إلى مفاوضات فلسطينية ــ إسرائيلية تعني عملياً إقراراً فلسطينياً وعربياً بصيغة «التصفية» التي يسعى ترامب ونتنياهو إلى فرضها، بل ستكون (المفاوضات) جزءاً من مساعي محاولة تكريسها وشرعنتها.
على الصعيد الإسرائيلي، أي مفاوضات في ظل السقف الجديد للتسوية ستعني انتصاراً لمنطق اليمين الإسرائيلي الذي كان يروج لمفهوم أن التشدد السياسي، واستمرار التمسك بالثوابت الصهيونية، سبق أن نجحا في دفع دول ومنظمات عربية وفلسطينية إلى شرعنة احتلال 78% من أرض فلسطين (الاعتراف بإسرائيل)، ولذلك يمكن بالتشدد نفسه تكرار هذا النجاح في القدس والضفة، والنتيجة ستكون أن من تنازل عن أغلب فلسطين لمصلحة شعار التسوية الشاملة سيتنازل عن القدس والضفة لإمرار مصالح أخرى.
هكذا تسقط مقولة أن التشدد بالتمسك بالحقوق في القضية الفلسطينية يولد تشدداً في الساحة الإسرائيلية. بل ما حدث هو العكس: «التسامح» والاستعداد للتنازل عن أغلب فلسطين دفعا الإسرائيلي والأميركي الى الاعتقاد بنجاح الرهان على إمكانية انتزاع المزيد من التنازلات العربية والفلسطينية.
لكن، ماذا لو أصرت السلطة الفلسطينية على مواقفها الرافضة لما يسعى ترامب ونتنياهو الى أن يفرضه على الشعب الفلسطيني؟ الجواب أتى أيضاً على لسان ترامب في المناسبة نفسها، بإعلان أن بلاده لن تواصل تقديم المساعدات إلى الفلسطينيين إذا لم يعودوا إلى طاولة المفاوضات، وهي نتيجة أكثر من متناسبة مع خيار التخلي عن أوراق القوة حتى وفق منطق التسوية.
وتهدف المواقف الأميركية ــ الإسرائيلية إلى وضع السلطة أمام خيارين: استمرار الزحف الاستيطاني ومواصلة شرعنته أميركياً وإسرائيلياً بانتظار (أو العمل على) قيادة فلسطينية جديدة تقبل هذا الواقع المفروض، أو قبول السقف الأميركي ــ الإسرائيلي الجديد، الذي يعني أن على السلطة إعادة صياغة مشروعها السياسي وشعاراتها التي روجت على أساسها لاتفاقية أوسلو بما يتلاءم مع الوقائع التي فرضها الاحتلال وشرعنها ترامب، وهو ما يفرض بالضرورة أن أي مفاوضات لاحقة لن تكون إلا دون سقف رهانات أوسلو، وبعيدة جداً عن التقديرات التي استند إليها. واتفاق أوسلو الذي كان يفترض أن يكون مؤقتاً كمقدمة لدولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 بات بعد المواقف الأميركية والخطوات الإسرائيلية، المتصلة بالقدس واللاجئين والمستوطنات، اتفاقاً نهائياً.