هدأت وتيرة المعارك في مدينة عدن جنوبيّ اليمن، لينجلي غبارها عن مواقف أكثر وضوحاً ربما تكون فاتحةً لمرحلة سياسية جديدة، تعيد الخطة الإماراتية المتقادمة القائمة على تصدير «بديلَين سياسيين» في كل من الشمال والجنوب إلى الواجهة. هذا ما أوحت به تطورات الساعات الأخيرة، التي تمكنت خلالها الميليشيات الموالية لـ«المجلس الانتقالي الجنوبي» من إحراز تقدم كبير في عدن، في ظل «تراخٍ» سعودي قرأه «الإصلاحيون» (الإخوان المسلمون في اليمن) على أنه رضىً مبطن بما يجري، فيما لم يعد مستبعداً أن يكون ذلك «التراخي» جزءاً من متطلبات اقتناع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بخطط ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، على غير مستوى.
احتمال يعززه موقفان صدرا أمس: أولهما لرئيس «الانتقالي»، عيدروس الزبيدي، وثانيهما لرئيس «مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية» السعودي، أنور عشقي.
منذ أولى ساعات فجر الثلاثاء، بدا أن الأوضاع متجهة نحو الحسم لمصلحة ميليشيات «الانتقالي»، وإسقاط حكومة أحمد عبيد بن دغر لولا تدخّل سعودي في اللحظات الأخيرة حال من دون تحطيم هيبة «الشرعية» التي تُخاض باسمها الحرب منذ قرابة 3 سنوات. عقب جولات من الكر والفر شهدها يوم الإثنين، صعّدت قوات «الحزام الأمني»، الذراع العسكرية لـ«الانتقالي»، والمدعومة إماراتياً، عملياتها ضد ألوية «الحماية الرئاسية» الموالية للرئيس المستقيل، عبد ربه منصور هادي، لتتمكن على إثر ذلك من السيطرة على ثلاثة من أربعة معسكرات تابعة لقوات هادي (الأمن المركزي، حيدان، الصولبان)، ولتسيطر على الأحياء القريبة من قصر معاشيق، الذي تتخذه حكومة بن دغر مقراً لها، فارِضة حصاراً محكماً عليه.

لا يبدو أن ثمة سخطاً سعودياً على تقهقر «الشرعية» في عدن


كانت القوات التابعة لـ«الانتقالي» على وشك اقتحام قصر معاشيق عندما صدر ما بدا أنه ضوء أحمر سعودي متمثلاً في 3 خطوات: أصدرت قيادة «التحالف» بياناً جديداً لوّحت فيه بـ«اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لإعادة الأمن والاستقرار إلى عدن»، ترافق ذلك مع تحليق طائرات حربية سعودية فوق مقر حكومة بن دغر، وتلاه استدعاء قيادات من «الشرعية» وأخرى من «الانتقالي» إلى مقر قيادة «التحالف» في البريقة. خطوات أعقبها وقف ميليشيات «المجلس الجنوبي» هجومها على قصر معاشيق، بالتوازي مع إصدار وزارة الداخلية التابعة لهادي تعميماً «فورياً وعاجلاً» دعت فيه «جميع الوحدات العسكرية إلى وقف إطلاق النار»، آملة أن «يلزم الطرف الآخر عناصره بالكف عن الاعتداء على مؤسسات ومقرات الدولة».
لكن التطورات لم تسر على نحو ما أرادته «الشرعية»؛ إذ سرعان ما عاودت ميليشيات «الحزام»، ومعها فصائل «المقاومة الجنوبية» الموالية لـ«الانتقالي»، هجومها على مقر «اللواء الرابع - حماية رئاسية» في مديرية دار سعد، والذي يقوده المدعو مهران القباطي، لتتمكن قبيل ظهر الثلاثاء من إسقاطه بشكل كامل، في حين ظلّ مصير القباطي مجهولاً، قبل أن يظهر عبر قناة «بلقيس» ليعلن أن «القوات الإماراتية شاركت في إسقاط معسكره»، معتبراً ما جرى «غدراً ونقضاً للاتفاق مع السعودية». هكذا إذاً، سيطرت قوات «الانتقالي» على معظم المواقع والمعسكرات والمقار الحكومية، ليبدأ، مع تقدم ساعات النهار، تسليم معسكرات «الحماية الرئاسية» لمقاتلين سلفيين، موالين للإمارات، سبق لهم أن شاركوا في معارك الساحل الغربي.
ماذا يعني ذلك كله؟ وكيف سيُترجم سياسياً؟ على الرغم من محاولة حكومة هادي الإيحاء بأنها لا تزال تمسك بزمام الأمور، خصوصاً عبر تصريح للمتحدث باسمها، راجح بادي، قال فيه إن «الحكومة متواجدة في قصر المعاشيق بكامل أعضائها الذي كانوا متواجدين قبل الأحداث المؤسفة»، وإن «مدينة كريتر لا زالت تحت سيطرة اللواء أول - حماية رئاسية»، إلا أن ما بات مؤكداً أن السلطة الفعلية باتت خارج يد «الشرعية»، وأن هذا التحول لن يكون من دون مفاعيل سياسية في مقبل الأيام.
رئيس «الانتقالي»، عيدروس الزبيدي، رأى، في مقابلة تلفزيونية، أمس، أن «ما بعد 30 يناير ليس كما كان قبله»، مجدداً التزام المجلس بـ«تنفيذ أهداف التحالف العربي في اليمن». أهداف يتصدرها، بحسب ما أعلن الزبيدي نفسه، «دعم المقاومة الشمالية بقيادة طارق محمد صالح حتى تحرير الشمال». هذه العبارة بقدر ما تكشف «الانتقالي» أمام منتقديه الذين يعتبرون أن رفعه شعار «الاستقلال» ليس إلا «تشدقاً»، وأنه لا يمكن له أن يتحرك خارج دائرة التوجيهات الإماراتية، فإنها تثبت أن مخطط أبو ظبي القديم الجديد، القائم على تعويم «الانتقالي» في الجنوب وآل صالح في الشمال، تمهيداً لتسوية سياسية على نحو ما يشتهي محمد بن زايد، لم تنته صلاحيته بعد، وأن المتوقع في الأيام المقبلة تكثيف الاشتغال على ذلك المخطط (بعدما فشلت على ما يبدو محاولات ترويض «الإصلاح»)، خصوصاً وأن الزبيدي لم يخفِ أن هدفه في نهاية المطاف إشراك «الانتقالي» في أي مفاوضات محتملة بشأن اليمن.
هذا المطمح يظهر أن الإمارات وجدت في رجحان الكفة الميدانية لصالح «الانتقالي» فرصة للمجاهرة به على نحو أوضح، بعدما بدا موقفها في الساعات الأولى من المعارك متذبذباً. كثفت وسائل الإعلام الإماراتية، يوم أمس، هجومها على «الشرعية» وحزب «الإصلاح»، متهمة الأخير بـ«تعطيل خطط الرئيس هادي لحل المشاكل المعيشية في عدن»، ومهلّلة لـ«انتصار المقاومة الجنوبية، وتحييد الميليشيات التي يضغط بها حزب الإصلاح على هادي». واللافت في تلك التغطية إلحاح أبو ظبي على التفريق بين «الشرعية» وبين هادي، بالنظر إلى أن الأخير من الهشاشة بمستوى لا يشكل خطراً على الخطة السياسية الإماراتية.
على المقلب السعودي، لا يبدو أن ثمة أثراً لما تصرّ المنابر التابعة لقطر على أنه ضربة تلقتها الرياض من أبو ظبي. إذ لا يظهر، إلى الآن، أن ثمة سخطاً سعودياً على تقهقر «الشرعية» في عدن، ما ينبئ بأن المملكة قد تكون ارتأت فعلاً اختبار «المقترحات الإماراتية» على طريق تقوية جبهة «التحالف» في اليمن، لاسيما وأن تجارب مماثلة أخرى (من بينها مقاطعة قطر نفسها) تدعم فرضية من هذا النوع. فرضية يمكن استشفاف بعض من مؤشراتها من التصريح الأخير للسياسي السعودي، أنور عشقي، والذي اقترح فيه تشكيل حكومة شمالية بزعامة أحمد علي صالح، وأخرى جنوبية برئاسة عيدروس الزبيدي، ضمن دولة فدرالية من إقليمين بقيادة عبد ربه منصور هادي. وأشار عشقي إلى أن «الزبيدي مقبول جنوباً، كما أن أحمد صالح مقبول في الشمال»، مضيفاً أن «الحراك الجنوبي يرفض حكومة بن دغر، ولكنه لا يرفض حكم هادي، ولذلك فإن حلاً من هذا النوع يمكنه أن يسهم في إحلال السلام مرحلياً». واعتبر أن «كل ما صدر من السعودية والإمارات يؤكد على أنهما معاً في حل مشكلة اليمن وليس بينهما أي خلاف».
(الأخبار)