تونس | أثناء جلسة استماع داخل لجنة الأمن والدفاع البرلمانيّة، أول من أمس، فجّر وزير الداخلية التونسي لطفي براهم، أزمة مع الصحافيّين. ورغم أنّ برنامج الجلسة لم يشمل في الأصل موضوع التعامل الأمنيّ مع الصحافة، فإنّ النقاش تدحرج في ذلك الاتجاه، إذ أراد براهم أن يكون النقاش المتعلق بالحريات سريّاً، لكن نواباً، من المعارضة بالخصوص، أصرّوا على أن تكون الجلسة علنيّة.
في خضم النقاشات، هدد الوزير «المدوّنين»، مشيراً إلى اعتزامه رفع شكوى للمكلف العام بنزاعات الدولة، مفادها تتبع كلّ من «يشكك في المؤسسة الأمنيّة أو كتابة أمور تمسّ معنويات الأمنيّين». ولم يكتف بذلك، فقد أشار أيضاً إلى رصد أجهزة الوزارة مكالمة ليليّة بين صحافيّ أجنبيّ ومحتجّين، خلال الأحداث الأخيرة، وهو ما تم تأويله على أنّه سياسة تنصّت ممنهجة في حقّ الصحافيّين. لعلّ الأهم من كلّ ذلك، أنّ هذا التطوّر لم يأتِ من فراغ، بل كان يعتمل منذ مدة.
نقيب الصحافيين ناجي البغوري، أشار خلال ندوة صحافيّة عقدت أمس، إلى وجود «حالة من التراجع الخطير في عمل الصحافيّين وفي وضع حريّة الصحافة». هذا التراجع بدأ بتصريح لرئيس الجمهوريّة، الباجي قائد السبسي، خلال الاحتجاجات الأخيرة، في حق مراسلي الصحافة الأجنبيّة الذين اعتبر أن تغطيتهم «شوّهت البلاد» (راجع العدد ٣٣٧٠). ومنذ ذلك الحين، يقول البغوري: «أُطلقت يد الأمنيّين بشكل فجّ».
تصريح وزير الداخليّة، أول من أمس، ليس إذاً أكثر من النقطة التي أفاضت الكأس. رغم إشارته في إجاباته داخل البرلمان إلى عقد وزارته لقاءات شهريّة مع الصحافيّين، وتأكيده لاحقاً على انفتاحها مستقبلاً على النقابة في سبيل تجاوز «بعض الأخطاء أو سوء التقدير والتفاهم من الطرفين»، فقد بدا كمن يبرر سوءاً حدث بالفعل. فقد تلقت النقابة شكاوى من صحافيّين بخصوص تعرضهم لممارسات قمعيّة، وفي بيان لها يعود إلى يوم 27 كانون الثاني/ جانفي الجاري، قالت إن أمنيّين بزيّ مدنيّ قاموا بافتكاك هاتف أحد المراسلين وبطاقة اعتماده في محاولة لثنيه عن تغطية تدخلهم العنيف لفضّ إحدى التظاهرات. وقد أجاب المتحدث الرسميّ لوزارة الداخليّة، حينما اتصلت به النقابة للاستفسار، بالقول: «تلك مشكلتكم، توجّهوا إلى القضاء».

نقيب الصحافيين ناجي البغوري: يدُ الأمنيّين أُطلقت بشكل فجّ


لا يقتصر الأمر على حادث فرديّ في حقّ أحد الصحافيّين، إذ اعتبر النقيب أن تلك الحوادث صارت متكررة وتجاوزت المعهود. وأشار، في السياق، إلى تلقي النقابة شكاوى تضمّنت تعرض صحافيّين لتحرشات أمنيّة شملت افتكاك معدات عملهم ومحاولة الاطلاع على تغطياتهم قبل نشرها وتعرض هواتفهم للتنصّت ومتابعتهم في مقارّ عملهم وسكنهم. رغم كلّ ذلك، لا تقتصر رهانات حريّة الصحافة وديمومتها على التعامل الأمنيّ، ذلك أنّ جذور المشكلة أكثر عمقاً.

سياسات الالتفاف ... والأزمات

يؤطر العمل الصحافيّ اليوم مرسومان صدرا عام 2011. يتعلق الأول (المرسوم عدد 115) بحريّة الصحافة والطباعة والنشر، فيما يتعلق الثاني (المرسوم عدد 116) بالقطاع السمعي البصريّ، حيث ينتظم بموجبه الهيكل التعديليّ ممثلاً في «الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعيّ البصريّ»، إلا أنّ الحكومة تعتزم اليوم الالتفاف على المرسومين، عوض تطويرهما.
على هذا الصعيد، قدّمت «وزارة العلاقة مع الهيئات الدستوريّة والمجتمع المدنيّ وحقوق الإنسان» إلى البرلمان مشروع قانون تنظيميّ جديد، فيما أصدرت نقابة الصحافيّين، برفقة 23 منظمة أخرى مهتمة بالحريات، بياناً يندد بمشروع القانون. واعتبر البيان أنّ «الاستشارات التي قامت بها الوزارة شكليّة وغير شفافة، وغيّبت الجهات الفاعلة في القطاع الإعلاميّ». ولعلّ الأخطر من ذلك هو انحراف المشروع عن المكتسبات التي أقرها المرسومان السابقان وعما جاء في الدستور من ضمانات.
في ظلّ غياب هيئة تعديليّة لقطاع الصحافة المكتوبة، يهدف المشروع الجديد إلى مساواة الهيئة الوحيدة المعنيّة بالصحافة التلفزيّة والإذاعيّة بجميع الهيئات الدستوريّة الأخرى. ويعني ذلك فصل الهيئة عن باقي الأحكام المنظمة للقطاع، ما سيؤدي إلى تشتيت المنظومة القانونيّة، ويفتح الباب أمام «الغموض والتضارب والحدّ من حريّة الاتصال السمعيّ البصريّ». من جهتها، تقترح المنظمات في بيانها وضع إطار بديل يكون شاملاً ويحمي «حقّ المواطن في إعلام حرّ ومتعدد وملتزم بقواعد المهنة (ويبعد) سيطرة أصحاب النفوذ السياسيّ أو الماليّ على الإعلام».
إلى جانب التهديدات الأمنيّة والتشريعيّة، يتهدد قطاع الصحافة (المكتوبة) شبح الأزمة الماليّة، وللسلطة التنفيذيّة يدٌ في ذلك. فالدولة تسند عادة الصحافة المكتوبة ماليّاً بطرق غير مباشرة، ويتم ذلك من خلال آليتين: توزيع الإشهار (الإعلان) العموميّ حسب حجم توزيع كلّ جريدة، واقتناء الوزارات أعداداً لمصلحة موظفيها. وإذا كان الأمر قبل الثورة يتم حسب الموالاة والتقرب من السلطة، فإنّه صار بعدها يتم على أسس تشوبها الضبابيّة.
ترتفع بين الفينة والأخرى، من داخل إدارات الصحف، أصوات منددة بسوء توزيع الإشهار العموميّ. وظلت شراءات الدولة من الجرائد والمجلات تتراجع عاماً بعد آخر. وبما أنّ الأزمة بين الصحافة والسلطة التنفيذيّة على أشدّها هذه الأيام، فُتح الملف مرة أخرى. وفي هذا الصدد، عقدت أمس الجامعة التونسيّة لمديري الصحف اجتماعاً مع نقابة الصحافيّين، أفرز اتفاقاً حول ضرورة التصعيد. واعتبر الهيكلان أن الدولة تخلت عن مساندة الصحافة المكتوبة وحرمتها من الدعم، وتركتها بالتالي تواجه مصيرها في سوق متناقصة، نتيجة عجز الحكومة عن «تدجينها وإخضاعها». وتبدأ الخطوات التصعيديّة بمقاطعة تغطية أنشطة الحكومة ويمكن أن تصل إلى الإضراب عن العمل تدريجيّاً وبشكل تصعيديّ، إلى حين عودة الدعم الذي تؤطره اتفاقات سابقة.
عرفت تونس سابقاً أزمات كثيرة بين السلطة التنفيذيّة والصحافة، لكنّ جلّها كان مؤقتاً وجزئيّاً. هذه المرة تبدو الأزمة مفتوحة وشاملة، إذ إنّها تجمع بين الجوانب الأمنيّة والقانونيّة والماليّة. وإذا كانت مسألة الاستمرار الماليّ تمثّل، جزئيّاً، امتداداً لما بات يُعرف بـ«أزمة الصحافة المكتوبة» ذات الطابع العالميّ، فإن بقيّة المسائل ترتبط أكثر برهان محليّ يتمثّل في استكمال بناء مؤسسات الدولة الديموقراطيّة كما يتصوّرها المواطنون، لا كما تتمنّاها السّلطة.