الجزائر | منذ أكثر من أسبوع، يجدُ القادم إلى الجزائر العاصمة صعوبة كبيرة في الوصول إليها بسبب الحواجز الأمنية الكثيفة الموضوعة على جميع المداخل الشرقية والغربية والجنوبية للعاصمة، والتي حوّلت حياة الموظفين والقادمين إليها من أجل قضاء مصالحهم إلى ما يشبه الجحيم.
ويعود سبب خنق مداخل العاصمة إلى رغبة السلطات في منع وصول فئة متقاعدي و«معطوبي الجيش» إلى الساحات الكبرى، حيث يُمنع التظاهر وفقاً للقانون. وهؤلاء هم فئة ترفع منذ مدة مطالب اجتماعية لم تتحقق، إذ يعتبرون أنفسهم ضحايا «ظلم» السلطات التي يتهمونها بالاستنجاد بهم في مرحلة العشرية السوداء (سنوات التسعينيات)، قبل أن تتخلى عنهم عقب استعادة الأمن وتحقيق المصالحة الوطنية.
وتجدُ هذه الفئة تعاطفاً واسعاً معها على وسائل التواصل الاجتماعي، لأن أغلب أفرادها يعانون من أمراض ويتقاضون أجوراً زهيدة لا تكفي لإعالة عائلاتهم.

تختلف المقاربات السياسية لتفسير هذه الاحتجاجات المتواصلة

غير أن وزارة الدفاع الوطني المسؤولة عن هذه الفئة، أعلنت رفضها هذه الحركة الاحتجاجية، وأصدرت بياناً شديد اللهجة ذكّرت فيه بأن بعض من ينسبون أنفسهم إلى متقاعدي الجيش «يحاولون بث مغالطات وزرع الشك وسط الرأي العام الوطني، حيث يقدمون أنفسهم كضحايا هضمت حقوقهم الاجتماعية والمادية ويستعملون الشارع كوسيلة ضغط لفرض منطقهم». ولاقى هذا البيان انتقادات من قبل أطراف سياسية، إذ رأته حاداً في مضمونه تجاه فئة كان لها فضل كبير في استعادة الأمن. وفي هذا الصدد، أعلن «حزب الحركة الديموقراطية الاجتماعية» المحسوب على أقصى اليسار، أثناء ندوة صحافية أمس، أنّ من الواجب التكفل بهذه الفئة التي ساهمت في الحفاظ على النظام الجمهوري الذي كان مهدداً في بداية التسعينيات.
بيد أنّ رقعة الاحتجاج لا تقتصر على فئة واحدة، إذ باتت رقعتها تتسع بشكل كبير لتشمل كل القطاعات. ومن أبرز المحتجين حالياً «الأطباء المقيمون»، أي الذين يزاولون دراسة الطب في مرحلة التخصص، إذ يستمر إضرابهم منذ نحو شهر احتجاجاً على إلزامهم العمل في ظروف صعبة من دون أن تتوفر لهم الإمكانات. وأخذت الحركة بعداً واسعاً إثر «التعامل البوليسي» مع هؤلاء بسبب رفض السلطات السماح لهم بالتظاهر خارج مستشفيات العاصمة، وغزت صور الضرب مواقع التواصل الاجتماعي. ولم تشفع إلى اليوم جلسات الحوار التي جمعت وزارة الصحة بهؤلاء الأطباء في وقف احتجاجهم، بل إن الأمر تفاقم داخل المستشفيات الجزائرية بعد انضمام الممرضين والاختصاصيين النفسيين إلى الإضراب، وهو ما أدى إلى حالة فوضى عارمة، وصلت في بعض الأحيان إلى حد الاشتباك مع المرضى الذين لا يتفهم كثير منهم عزوف الأطباء عن تقديم العلاج إلا في حدوده الدُنيا.
وفي المدارس الجزائرية أيضاً، يبدو الغضب عارماً لدى نقابات الأساتذة بسبب عدم استجابة وزارة التربية لمطالبهم الاجتماعية. ووصل الأمر ببعض المدارس إلى عدم التدريس لمدة ثلاثة أشهر كاملة نتيجة هذا الإضراب الذي يمسّ عدداً من المحافظات، مثل بجاية والبليدة. وقد دفع هذا الوضع بأولياء التلاميذ إلى الاحتجاج ضد الأساتذة المضربين، متهمين إياهم بتضييع مصير أبنائهم الدراسي لهذه السنة، بينما تقف وزارة التربية عاجزة عن إيجاد الحل لهذه المعضلة، تماماً مثلما تعجز وزارة التعليم العالي عن فكّ إضراب طلبة المدارس العليا المتواصل هو الآخر منذ ثلاثة أشهر.
وليس الأمر بأحسن حال في قطاع النقل، حيث تصرّ نقابة مضيفي الطيران بالخطوط الجوية الجزائرية على الإضراب الذي يتجدد في كل مرة، بسبب احتجاجهم على عدم تطبيق الاتفاقية التي وقعوا عليها مع الإدارة في ما يخص زيادة الأجور. ويعيش مطار الجزائر الدولي، إثر ذلك، اضطراباً كبيراً في حركة السفر، واحتجاجات لا تتوقف من المسافرين.
وتستعمل السلطات إزاء هذه الحركة العارمة من الاحتجاجات، وسائل عدة من أجل كبح جماحها، لعلّ أبرزها اللجوء إلى العدالة في كل مرّة للقضاء ببطلان مثل هذه الإضرابات. وتحتج أحزاب سياسية ومنظمات حقوقية على هذا السلوك الذي تعتبره «استغلالاً للقضاء من أجل تحقيق مآرب سياسية». ويقول رئيس «الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان»، نور الدين بن يسعد، لـ«الأخبار»، إنّ «الإضراب في الجزائر هو حق منصوص عليه في الدستور، كما أن الجزائر وقّعت على كل الاتفاقات الدولية المتعلقة بالحقوق السياسية والاجتماعية للمواطنين، وعلى هذا الأساس فإنه لا يجوز التنازل عن هذا الحق وممارسته وفقاً للقانون».
وتختلف المقاربات في تفسير هذه الاحتجاجات التي تأتي في خضم حديث متزايد عن الانتخابات الرئاسية المرتقبة العام المقبل. وفي تفسير الأمين العام لـ«حزب جبهة التحرير الوطني» صاحب الأغلبية البرلمانية، فإنّ هذه الاحتجاجات موجهة من قبل أطراف تريد أن تُحدث الفوضى في البلاد، وهو نفس ما يذهب إليه تقريباً حزب الوزير الأول (رئيس الوزراء) أحمد أويحيى. لكن هذا التفسير ترفضه بشدّة الأمينة العامة لـ«حزب العمال» لويزة حنون، التي تعتبر أنّ ما يجري يُمثِّل نتيجة حتمية لسياسات التقشف القاتلة التي سطرتها الحكومة في الموازنة العامة لسنة 2018 والتي دمرت القدرة الشرائية للموظفين، وستنتهي إلى تفجير الأوضاع في كل القطاعات، ما لم تتم العودة عنها.